خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله

خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله

ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

عباد الله أوصيكم بما أوصى به رسول الله(ص) عندما قال: “احذروا المال فإنه كان فيما مضى رجل قد جمع مالاً وولداً وأقبل على نفسه وجمع لهم فأوعى، فأتاه ملك الموت فقرع بابه وهو في زي مسكين فخرج إليه الحجاب فقال لهم: ادعوا لي سيدكم، قالوا: أو يخرج سيدنا إلى مثلك ودفعوه حتى نحوه عن الباب، ثم عاد إليهم في مثل تلك الهيئة وقال: ادعوا لي سيدكم وأخبروه أني ملك الموت فلما سمع سيدهم هذا الكلام قعد خائفاً وقال لأصحابه: لينوا له في المقال وقولوا له لعلك تطلب غير سيدنا بارك الله فيك، قال لهم: لا، أنا جئت إليه.. ودخل عليه وقال له: قم فأوص ما كنت موصياً فإني قابض روحك قبل أن أخرج فصاح أهله وبكوا فقال لهم: افتحوا الصناديق وأكبوا ما فيها من الذهب والفضة ثم أقبل على المال وقال له: لعنك الله يا مال أنت من أنسيتني ذكر ربي وأغفلتني عن أمر آخرتي حتى بغتني من أمر الله ما قد بغتني”…

أيُّها الأحبة: لنأخذ بهذه الوصية التي تذكرنا بمسؤوليتنا، بأن نكون واعين لأنفسنا، ونؤدي مسؤولياتنا، لا نغفل عنها ولا نفرط بها للحصول على مال أو موقع أو لأجل ولد، حتى نكون جاهزين ليوم حذرنا الله منه: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}…

ومتى فعلنا ذلك سنكون أكثر وعياً ومسؤولية وقدرة على مواجهة التحديات.

والبداية مما حدث في الكحالة الذي رغم انتهاء البعد الأمني فيه والأمل بأن ينتهي على الصعيد القضائي، فإن ما جرى كشف عن هشاشة الوضع الداخلي والتوتر الحاصل على الصعيدين السياسي والطائفي.

ونحن على هذا الصعيد، كنا نأمل أن يدعو ما حصل إلى أن تتداعى القوى السياسية وأن تستنفر جهودها لإجراء حوار بينها يعالج الأسباب التي أدت إلى أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه لمنع تكرارها.. وإن لم يكن بالإمكان ذلك في هذه المرحلة نظراً للتعقيدات الموجودة في الساحة، فعلى الأقل قيامها بإعادة النظر بالخطاب السياسي التحريضي الذي أشرنا إلى أنه كان له الدور الأساس في ما حصل، وقد يتسبب إن استمر بحوادث جديدة وأكثر ضراوة، وبتصعيد في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل.

لكن بدلاً من ذلك، فقد شهدنا تصعيداً على مستوى الخطاب السياسي بأن وصل إلى حد إعلان القطيعة مع طرف لبناني وازن وفاعل ويحظى بتمثيل شريحة كبيرة من اللبنانيين وله دوره في حماية البلد، وإغلاق باب الحوار معه من دون التدبر لنتائج ذلك وعواقبه سياسياً وطائفياً ووطنياً، في الوقت الذي يعي فيه الجميع عدم جدوى هذه السياسة في بلد لا يقوم إلا بكل طوائفه ومذاهبه ومواقعه السياسية، بل هي تزيد التوتر، وتسمح لكل من يكن العداء لهذا البلد تحقيق أهدافه والمس بأمنه واستقراره ونهوضه.

ومن هنا، فإننا نعيد التأكيد على الجميع ورأفة بهذا البلد الذي يتداعى وحرصاً على استقراره أن لا بديل إلا الحوار وهو الطريق الأسلم والوحيد لعلاج الأزمات والخلافات، وهو الذي يساهم في إزالة الهواجس والمخاوف بين اللبنانيين وردم الهوة الحاصلة بينهم، وإذا كان هناك من يرى أنه جرب الحوار سابقاً ولم ينفع، فهذا لا يعني أن لا نعيد التجربة وبعد دراسة جادة للأسباب الحقيقية لفشل التجربة السابقة، لأن البديل عنه هو خراب البلد ومزيد من الانهيار فيه…

وبالانتقال إلى التقرير الذي صدر عن الجهة المكلفة بالتدقيق الجنائي، والذي أشار بوضوح وبالوثائق هذه المرة وبالأسماء والأرقام للفساد والهدر الذي كان يجري داخل المصرف المركزي وفي مؤسسات الدولة، ومن تسهيل تهريب للأموال إلى الخارج، ما أدى إلى ضياع مليارات الدولارات من الخزينة وأموال المودعين، وأوصل البلد إلى حال الانهيار التي يعاني منها…

ونحن في هذا المجال، ندعو القضاء العادل والنزيه إلى أن يقوم بدوره لمحاسبة كل الذين ساهموا بهذا الفساد والهدر، والعمل على إعادة الأموال التي أهدرت أو هربت وأخذت بدون وجه حق إلى الخزينة، والتي نرى إن أعيدت ستساهم في الاستغناء عن القروض الخارجية أو الخضوع لشروطها والتي ليست في مصلحة البلد أو هي لغايات وأهداف بعيدة كل البعد عن مصالحه.

ونبقى عند الأمل الذي يتطلع إليه اللبنانيون كسبيل للخلاص من الأزمات التي يعاني منها البلد ويعانون منها على الصعيد المعيشي والحياتي، بعدما وصلت الباخرة التي ستتولى التنقيب.. ونحن مع كل اللبنانيين نستبشر بذلك خيراً، ونأمل أن يحمل إلينا التنقيب الذي ستظهر نتائجه بعد أشهر أخباراً سارة بوجود المخزون الكافي والقابل للاستفادة، لكننا نخشى من أن تضيع هذه الثروة في دهاليز القوى النافذة، وأن تتحول لحسابها بدلاً من أن تكون لإنقاذ هذا البلد ولحسابه، كما هُدرت في السابق الكثير من مقدراته وإمكاناته، وهي خشية مشروعة وخصوصاً حين ترى سعي الكثير من القوى السياسية للإطباق على الصندوق السيادي والمحاصصة فيه وفي ذلك خيانة للوطن ولأبنائه.

في هذا الوقت يستمر الفراغ على الصعيد الرئاسي رغم أن تداعياته لن تقف عند الوضع المعيشي والاقتصادي رغم ضرواته، بل وصل إلى عدم قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها والذي رأينا أولى بوادره في أزمة الكهرباء، وقد تتعداه إلى الفراغ في مركز قيادة الجيش مع كل تبعات هذا الفراغ.

وأخيراً كنا نأمل أن لا يصدر القرار الذي نُسب إلى المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الذي نراه أساء إلى هذه المؤسسة التي وجدت لتكون حاملة لكل تنوعات المجتمع المنتمي إلى خط أهل البيت، وقد رأينا مدى الشرخ الذي أحدثه هذا القرار على صعيد اهتزاز الوحدة الداخلية في مرحلة نحن أحوج ما نكون إلى تعزيزها وتشويه صورة هذه الطائفة وهي التي حملت ولا تزال هم القضايا الكبيرة وكانت رائدة في حماية هذا البلد وداعية إلى مد جسور التواصل مع الآخر.

ونحن هنا نقدر كل المواقف الحكيمة التي سارعت لمعالجة هذا الأمر واحتواء تداعياته وعدم إذكاء ناره…

إننا مع كل قرار يعزز المؤسسة الدينية ويصونها ويحفظها، شرط أن يكون نزيهاً وبعيداً عن الحساسيات التي تخرج عن موضوعيته، وأن لا يكون سلاحاً يستخدم لإلغاء هذا التنوع الذي تتسم به هذه الطائفة على كل الصعد والذي يمثل واحداً من أبرز مميزاتها وعنواناً بارزاً من عناوينها.