خطبة الجمعة للشيخ الخطيب
ادى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس والقى خطبة الجمعة التي قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على خاتم الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين.
والسلام عليكم أيها الاخوة المؤمنون ورحمة الله وبركاته.
قال الله تعالى في كتابه العزيز: (واذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون* ألا أنهم هو المفسدون ولكن لا يشعرون).
يكثر في هذه الأيام الحديث حول الإصلاح والإفساد وهو حديث قديم جديد كما يظهر من هاتين الآيتين المباركتين وغيرهما من الآيات التي تحدّثت عن أمم الأنبياء السابقين منذ بداية الوجود البشري على هذه الأرض، كما يظهر أن هناك نظرتين مختلفتان حول الإصلاح والافساد، فما يكون إفساداً في نظر فريق من الناس يكون صلاحاً في نظر آخرين.
وهذا يعني أن هناك اختلافاً في المقياس الذي على أساسه يكون الأمر إفساداً بنظر هذا الفريق وإصلاحاً بنظر الفريق الآخر، وقبل الدخول في هذا الموضوع لا بدّ من الرجوع الى الآيتين اللتين افتتحنا بهما هذه الخطبة، فقد ذُكر أنهما نزلتا في المنافقين في عهد رسول الله (ص) الذين اتخذوا موقفاً وسطاً بين المؤمنين والكافرين ولم يتخذوا موقفاً حاسماً من الكافرين الذين أظهروا العداوة والحرب لله ولرسوله وللمؤمنين بحجة أنهم يريدون الإصلاح بين الطرفين، وقد وصفوا موقفهم هذا بالإصلاح رداً على التنبيه الذي وُجّه لهم من اتخاذ هذا الموقف الذي هو إفساد في الأرض.
وواضح أن هذا الموقف اتخذه المنافقون انطلاقاً من أنهم لم ينخرطوا في جماعة المؤمنين وأن إسلامهم كان نفاقاً وأنهم في حالة ترقّب لما تصير إليه الأمور ولما تنتج عنه حالة الصراع بين الإيمان والكفر، فإن كُتب النصر للإيمان وأتباعه قالوا إنما نحن معكم وإن كُتب النصر للكفر وأتباعه حفظوا رؤوسهم ولم يتحملوا تبعة هذا الصراع، فالمنطلق لهذا الموقف لم يكن نابعاً من حالة اعتقادية حاسمة، وإنما من مصلحة دنيوية بحتة وهي أن يحصلوا على الفوز في كلتا الحالتين. كما جاء وصفهم في قوله تعالى (مذبذبين لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء) ومن هذا المبدأ جاء دفاعهم عن هذا الموقف بأنهم مصلحون فالصلاح والإصلاح في حقيقة موقفهم هو المصلحة الدنيوية التي حددوها لأنفسهم وهي عدم دفع ثمن الدفاع عن المبدأ للعدو عند خسارة المؤمنين في الحرب ، و النتيجة هي حصول الربح عند الانتصار وإن تذرّعوا بأن قصدهم هو الإصلاح بين طرفي الايمان والكفر.
ومن هنا نفهم أن الإفساد في المفهوم القرآني يرتكز على مراعاة المصلحة الدنيوية دون أخذ مبدأ الحق بعين الاعتبار، وعلى عكس ذلك فإن الإصلاح يكون بمراعاة المبدأ الحق والدفاع عنه.
ولذلك، فإن مبدأ الإصلاح والإفساد يبدأ من تحديد الإنسان لموقفه المبدئي تجاه الكون ووجوده فيه وعلاقته به ووظيفته التي تتحدد وفقاً لهذا الموقف وليس من تجاوز هذه المرحلة الى مرحلة لاحقة وهي ما تسمى في بعض الفلسفات المادية بالواقعية، فيما أعطت بعض النظريات الفلسفية الأخرى الكون والوجود تفسيرات مادية خاطئة كان لها نتائج خطيرة على العلاقات الإنسانية وعلى الوجود البشري التي اعتمدت الحسّ والتجربة وعطّلت العقل والفكر لاستخلاص النتائج لأنها تعاملت معهما تعاملاً مادياً ميكانيكياً محضاً، فجعلت من الانسان مجرد حيوان متطور وجعلت الكون غابة كبيرة للصراع يكون البقاء فيها للأقوى وقضى على روح الديانة المسيحية في الغرب وإلغاء اعتبار القيم الروحية والأخلاقية من قاموس حياتهم كما أن بعض النظريات المادية الأخرى حاولت فرض نظام عالمي لتوزيع الثروات بشكل يحقق التوازن وينهي الصراع القائم على مبدأ الديالكتيك والعامل الواحد وهو الاقتصاد، وهي نظرية ثبت بطلانها بشكل عملي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بضربة قاتلة وبنفس المبدأ الذي قام على أساسه وهو الاقتصاد، بعد صراع مع النظام الرأسمالي الذي ما زال يتحكم بمصير العالم مُفسداً في الأرض، وتظهر نتائج إفساده بما يفتعله من صراعات وحروب مستمرة يخلقها للسيطرة على الموارد الحيوية والإمساك بالمناطق الاستراتيجية الدولية لتكون له اليد الطولى في فرض إرادته على سائر بلدان العالم.
إن الفساد والإفساد والصلاح والإصلاح مبادئ أخلاقية لا وجود لها في قاموس النظريات المادية، ولذلك فإن استخدام هذه المصطلحات من قبل الأنظمة القائمة على أساسها لا معنى له طالما أن العلاقات البشرية من وجهة نظرها قائمة على أساس الصراع وأن الحياة للأقوى، وهي قاعدة مضطردة على صعيد الأفراد والجماعات، والإخلال بالأنظمة ناتج عن تضارب المصالح بينها، وإنما يكون للإفساد والفساد والصلاح والإصلاح معنى من وجهة النظر القائمة على مبادئ غير مادية وأن لهذا الكون خالقاً وراء المادة وهدفاً من وراء هذا الوجود يكون الإخلال به إفساداً لهذا الهدف والالتزام به صلاحاً لأنه يخدم الهدف الذي وُجد من أجله.
لذلك فإن أي حديث عن الإصلاح او الفساد يبدأ من هذه النقطة وهو صلاح المبدأ والفكرة التي يقوم عليها النظام الذي يحدد الحقوق والواجبات بين الجماعات التي أرتضته لنفسها ومدى ايمانها به الذي يدفعها للحفاظ عليه أو تجاوزه عندما ترى أنه لا يحترم أهدافها ومصالحها أو الغاية التي أنشأت من اجلها.
ولذلك فإن الاستقرار مرتبط بمدى سلامة المبدأ الذي قام النظام على أساسه وطالما أن المصالح متبدلة ومتغيرة فلن يكون النظام مستقراً والصراع والتصادم سيكون الحاكم في العلاقات بين جماعاته وأفراده في العلاقات الدولية، وهو ما نشهده من صراعات مستمرة وحروب متنقلة ضحيتها الوجود الإنساني والبشري والاستقرار في العالم وتُعَمّق من حب الذات والأنا وتحوّل الوجود الإنساني الى عالم متوحش، وبخلافه اعتماد المعايير الإلهية والإنسانية وهي القيم الأخلاقية التي لا تتغير ولا تتبدل بتغير الأزمنة والأمكنة وتحكم المصالح والمنافع، وهي وحدها التي تعطي الروح للعلاقات البشرية وتحولها من قطيع وحشي متصارع يأكل بعضه بعضاً لا إحساس فيه ولا روح الى علاقات إنسانية حميمة تتعاون على البر والتقوى هدفها الخير ويكون فيها الناس كلهم عيال الله واحبهم اليه أنفعهم لعياله.
وللأسف، أيها الاخوة والاخوات، فإن مجتمعاتنا التي من المفترض أنها مجتمعات مؤمنة فقد تحوّل الايمان الذي تعتنقه الى ايمان سطحي لا أثر له على سلوكها وخضعت للمنطق السائد الذي فرض وجوده عليها وتغلب على حياتها لتخلّفها عن فهم ايمانها ووقوعها فريسة للقوى الدولية المسيطرة وليس بسبب تنوعها الديني والمذهبي الذي يتسع ايمانها له، ولا يضع حاجزاً للتعاون فيما بينها إلا حينما تحولت الى مجموعات يحكمها منطق المصالح والتعصب والعنصرية، فوقعت ضحية منطق الأقليات الذي اخترعه الغرب وخضعت لوهم الخوف من بعضها البعض واحتياجها للقوى الخارجية الطامعة ذات الأهداف الاستعمارية للحماية، مما سهّل على هذه القوى الخبيثة تحقيق أهدافها بأيدينا دون أن تتكلّف أي ثمن لذلك.
وهذا ما حصل على الأقل في لبنان الذي افتقد منذ أن خضعت فيه بعض الطوائف لهذا المنطق، أفتُقد الأمن والاستقرار وما زال يدور في دوامة الصراعات الطائفية التي تُحمّل فيها التنوع الديني والمذهبي ظلماً تبعات هذا الصراع.
واذا كان هذا التوجّه هو السائد حتى اليوم لكننا نحلم أن يكون لبنان بما يمتاز به من التنوع المذهبي والطائفي هو المنطلق لمنطق جديد لمرحلة قادمة من التعاون الإسلامي المسيحي لإنتاج مشروع مشترك قائم على القيم الروحية لإنقاذ لبنان وشعبه ونموذجاً يقتدي به العالم، وهذا معنى أن يكون لبنان رسالة عنوانه ” وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا عل الاثم والعدوان”، ” وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم”، ” يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباباً من دون الله”.
إن الوضع القائم في لبنان اليوم والصراع المحتدم بين القوى السياسية ليس لمصلحة لبنان كوطن ولا لمصلحة اللبنانيين (مسيحيين ومسلمين)، المصلحة في دفع الأطراف جميعاً الى التفاهم وإنهاء هذا الصراع المجنون لإنجاز الاستحقاقات الدستورية في هذه المرحلة المصيرية والخطيرة الي يتوقف فيها إنقاذ لبنان على هذا التفاهم لتحصيل حقوقه وتحصينها من أطماع العدو المتربّص على الحدود مستفيدين من فرصة تاريخية هيأتها المقاومة الى جانب الجيش والشعب التي فرضت على العدو الانسحاب من جنوب لبنان وأثبتت قدرتها على ردعه وهي ستُثبت أيضاً قدرتها على انتزاع حقوقنا البحرية ورفع الحصار المفروض على لبنان في منع التنقيب والحصار الاقتصادي.
ان الإصلاح يبدأ بالتخلص من النزعة الطائفية التي شكلت وما تزال مصدر تخلف النظام السياسي وعدم قدرته على تطوير مؤسساته وتحسين أدائه في رعاية بنيه مما أعاق قيام دولة عادلة تحتضن مواطنيها وتنمي حسن المواطنة والانتماء لديهم، ولئن اجمع اللبنانيون على ضرورة الإصلاح السياسي فانجزوا اتفاق الطائف الا ان العبرة بقيت في التنفيذ، ولم تطبق ابرز الإصلاحات في هذا الاتفاق بدءاً من تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية وإقرار قانون انتخابي خارج القيد الطائفي على اعتبار لبنان دائرة انتخابية واحدة، من هنا فاننا نعتبر ان الإصلاحات مدخلاً اساسياً لقيام دولة المواطنة التي ينشدها كل اللبنانيين الذين باتوا ضحية نظامهم الطائفي الفاسد الذي اوصلهم الى ازمة اقتصادية خانقة اسهم الحصار والعقوبات المفروضة على لبنان في تفاقم تداعياتها وحولت اللبنانيين الى فقراء يستجدي غالبيتهم امواله المحتجزة في المصارف فيما يئن عامة الناس من جشع المحتكرين وتجار السياسية من بائعي الوطن على أبواب السفارات. وأول خطوات هذا الإصلاح قيامها على أساس احترام القيم الأخلاقية والروحية التي ينتمي إليها الشعب اللبناني بكل طوائفه.