حروب ترامب التجاريّة: أدوات الهيمنة وإعادة تشكيل النفوذ العالمي…
![حروب ترامب التجاريّة: أدوات الهيمنة وإعادة تشكيل النفوذ العالمي… حروب ترامب التجاريّة: أدوات الهيمنة وإعادة تشكيل النفوذ العالمي…](https://starlebanon.net/wp-content/uploads/2025/02/حروب-ترامب-التجاريّةأدوات-الهيمنة-وإعادة-تشكيل-النفوذ-العالمي-1024x582.jpeg)
وارف قميحة*
في عالم يتسم بالعولمة والاعتماد المتبادل بين الدول، تبرز السياسة التجارية للرئيس الأميركي دونالد ترامب كواحدة من أكثر الاستراتيجيات إثارة للجدل. فمن خلال فرض الرسوم الجمركية على الشركاء التجاريين الرئيسيين مثل كندا والمكسيك والصين، يسعى ترامب إلى حماية المصالح الاقتصادية الأميركية، لكن هذه الخطوات لا تخلو من تداعيات اقتصادية وسياسية كبيرة.
الرسوم الجمركية: أداة ضغط أم تكلفة باهظة؟
أقر ترامب بأن المواطنين الأميركيين قد يشعرون بـ”ألم” اقتصادي بسبب الرسوم الجمركية التي فرضها على الواردات من كندا والمكسيك والصين. ومع ذلك، يعتبر أن تأمين المصالح الأميركية “يستحق هذا الثمن”. هذه الرسوم، التي تصل إلى 25% على بعض السلع، تهدف إلى إعادة التوازن إلى الميزان التجاري الأميركي الذي يعاني من عجز كبير مع هذه الدول.
لكن هذه الخطوة لم تكن من دون ردود فعل. كندا والمكسيك، وهما من أكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، تعهدتا اتخاذ إجراءات انتقامية. الصين، من جهتها، أعلنت فرض رسوم جمركية بنسبة 15% على وارداتها من الفحم والغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة، بالإضافة إلى رسوم أخرى على النفط الخام والآلات الزراعية.
تعليق الرسوم: تفاوض أم تنازل؟
وفي تطور لافت، أعلن ترامب تعليق الرسوم الجمركية على كندا والمكسيك لمدة 30 يوماً، وذلك بعد اتصالات هاتفية مع رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو والرئيسة المكسيكية كلوديا شينباوم. جاء هذا القرار بعد أن قدمت كندا والمكسيك التزامات بتعزيز أمن الحدود ومكافحة تهريب المخدرات، وخاصة الفنتانيل، الذي يعتبر تهديداً كبيراً للصحة العامة في الولايات المتحدة.
هذا التعليق يظهر أن ترامب يستخدم الرسوم الجمركية أداة ضغط لتحقيق أهداف سياسية وأمنية، وليس فقط اقتصادية. فمن خلال التفاوض، يسعى إلى تحقيق مكاسب متعددة الأبعاد، من تعزيز الأمن الحدودي إلى تحسين الشروط التجارية.
قناة بنما: صراع جديد على النفوذ
في سياق متصل، جدّد ترامب تعهّده بـ”استعادة” قناة بنما، محذراً من تحرك أميركي “قوي” في حال استمرار الوجود الصيني حول هذا الممر المائي الحيوي. وقال ترامب للصحافيين: “الصين تدير قناة بنما التي لم تُمنح للصين، بل أُعطيت لبنما بحماقة، لكنهم انتهكوا الاتفاق، وسنستعيدها، وإلا فسيحدث شيء قوي جداً”.
هذه التصريحات تأتي في إطار النزاع الديبلوماسي المتصاعد بين الولايات المتحدة وبنما حول النفوذ الصيني في المنطقة. وقد أعلن الرئيس البنمي خوسيه راوول مولينو أن بلاده لن تجدد مشاركتها في مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، وهي الخطوة التي وصفها البعض بأنها انتصار للديبلوماسية الأميركية في مواجهة التوسع الصيني.
الرد الصيني: استراتيجية متكرّرة وذراع اقتصادية طويلة
لم تكن الرسوم الجمركية الأخيرة التي فرضتها الصين على الواردات الأميركية سوى حلقة في سلسلة طويلة من الردود المتبادلة التي تميز العلاقة التجارية المتوترة بين البلدين. فمنذ اندلاع “الحرب التجارية” في عهد ترامب الأول (2018-2020)، والتي شهدت فرض رسوم جمركية متصاعدة على مئات السلع، اعتادت الصين على الرد بسرعة وحسم، مستفيدة من تنوّع أدواتها الاقتصادية وقدرتها على استهداف قطاعات حيوية في الاقتصاد الأميركي.
في الأزمة الحالية، أعلنت الصين فرض رسوم بنسبة 15% على واردات الفحم والغاز الطبيعي المسال، و10% على النفط الخام والآلات الزراعية، وهو ردّ محسوب يضرب قطاعات ذات أهمية استراتيجية لأميركا، مثل الطاقة والزراعة، وتشكل عماد الاقتصادات في ولايات تُعدّ معاقل للجمهوريين. هذه الاستراتيجية ليست جديدة، فخلال الحرب التجارية السابقة، ركزت الصين على فرض رسوم على الصويا الأميركية – وهي سلعة تُنتج في ولايات زراعية مؤيدة لترامب – ما أجبر واشنطن على تقديم حوافز مالية لتعويض المزارعين المتضررين.
من “صنع في الصين 2025” إلى الاعتماد المتبادل
تعود جذور التوترات إلى سياسات الصين الصناعية التي تهدف إلى الهيمنة على تقنيات المستقبل عبر مبادرة “صنع في الصين 2025″، التي رأتها واشنطن تهديداً لأمنها التكنولوجي. رداً على ذلك، فرض ترامب قيوداً على شركات مثل “هواوي” و”ZTE”، وحظر تصدير الرقائق الإلكترونية المتطورة إلى الصين. لكن العقوبات الأميركية واجهت تحدياً: فالصين هي المُصنع الرئيسي للسلع الاستهلاكية التي تعتمد عليها الشركات الأميركية، كما أنها سوق ضخمة لشركات مثل “أبل” و”تسلا”، ما خلق معضلة للسياسة الأميركية بين “فك الارتباط” والحفاظ على المصالح التجارية.
النموذج الصيني للردود: أكثر من مجرد رسوم جمركية
لا تقتصر استجابة الصين على الرسوم الجمركية؛ ففي الأعوام الماضية، استخدمت أدوات مثل:
– التلاعب بالعملة: اتهامات متكررة من واشنطن بخفض الصين قيمة اليوان لدعم صادراتها.
– حظر انتقائي: منع واردات سلع أميركية محددة، كاللحوم أو الفواكه، لأسباب “صحية” غالباً ما تكون ذرائع سياسية.
– دعم الشركات المحلية: تعويض الشركات الصينية المتضررة من الرسوم عبر إعانات حكومية ضخمة.
كذلك لجأت الصين إلى تعزيز تحالفاتها مع دول أخرى لتقليل اعتمادها على السوق الأميركية، عبر مبادرات مثل “الحزام والطريق”، التي حاولت واشنطن إضعافها عبر ضغط ديبلوماسي مكثف، مثل قرار بنما الأخير عدم تجديد مشاركتها في المبادرة.
هل تنجح استراتيجية ترامب مع الصين؟
رغم أن الرسوم الجمركية الأميركية أدّت إلى تراجع العجز التجاري مع الصين من 419 مليار دولار في 2018 إلى 310 مليارات في 2022، إلا أن الثمن كان باهظاً:
– ارتفاع الأسعار: تحمّل المستهلك الأميركي تكلفة الرسوم عبر أسعار أعلى للسلع الإلكترونية والملابس.
– تشتيت سلاسل التوريد: نقلت بعض الشركات أنشطتها إلى فيتنام والهند، لكن بكين ظلت مركز التصنيع العالمي.
– تصاعد العداء التكنولوجي: تصنيف الصين كـ”خصم استراتيجي” عزز سباق التسلح في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والفضاء.
من جهتها، نجحت الصين جزئياً في تعويض خسائرها عبر تعزيز تجارتها مع لاتحاد الأوروبي ورابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN)، لكنها لا تزال بحاجة إلى السوق الأميركية لتحقيق نموّها المستهدف.
التداعيات الاقتصادية والسياسية
على رغم أن تعليق الرسوم قد يبدو خطوة إيجابية، يخلق التهديد بفرضها مرة أخرى يخلق حالة من عدم اليقين في الأسواق العالمية. الشركات الأميركية التي تعتمد على الواردات من هذه الدول قد تواجه ارتفاعاً في التكاليف، ما ينعكس سلباً على المستهلكين. بالإضافة إلى ذلك، فإن العلاقات التجارية المتوترة مع الشركاء الرئيسيين قد تؤدي إلى تباطؤ في النمو الاقتصادي العالمي.
من الناحية السياسية، فإن هذه الخطوات تعكس رؤية ترامب لسياسة خارجية تقوم على “أميركا أولاً”، حيث تُستخدم القوة الاقتصادية أداةً لتحقيق أهداف استراتيجية. لكن هذا النهج قد يزيد من عزلة الولايات المتحدة على الساحة الدولية، وخاصة في ظل ردود الفعل السلبية من الحلفاء التقليديين مثل كندا والمكسيك، وكذلك من الصين والاتحاد الأوروبي.
بين الحماية والانفتاح
سياسة ترامب التجارية تعكس رؤية قائمة على الحماية الاقتصادية، لكنها قد تكون قصيرة النظر. ففي عالم مترابط، لا يمكن للدول أن تعزل نفسها عن التأثيرات العالمية. الرسوم الجمركية قد تحقق مكاسب قصيرة الأجل، لكنها على المدى الطويل قد تؤدي إلى تآكل الثقة بالعلاقات التجارية الدولية.
بدلاً من الاعتماد على الرسوم أداة ضغط، يمكن للولايات المتحدة أن تعمل على تعزيز الشراكات التجارية من خلال التفاوض والاتفاقيات التي تعود بالفائدة على جميع الأطراف. فالتجارة الحرة، عندما تكون عادلة ومتوازنة، يمكن أن تكون محركاً للنمو الاقتصادي والاستقرار السياسي.
سياسة ترامب التجارية تثير تساؤلات حول التوازن بين الحماية الاقتصادية والانفتاح على العالم. بينما تسعى الولايات المتحدة إلى تأمين مصالحها، فإنها تواجه تحديات كبيرة في الحفاظ على علاقاتها مع الشركاء التجاريين. التعاون والتفاوض قد يكونان المفتاح لتجنب تصاعد التوترات الاقتصادية التي قد تؤثر سلباً على الجميع.
* رئيس معهد طريق الحرير للدراسات والأبحاث