رسالة الصوم للعلامة الخطيب

رسالة الصوم للعلامة الخطيب

وجه نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب رسالة الصوم لهذا العام قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله الطاهرين واصحابه المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين.

والسلام عليكم ايها الأخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات ورحمة الله وبركاته.

ونحن على موعدٍ مع حلول شهر رمضان المبارك أودّ أن أبارك للبنانيين عامة وللمسلمين خاصة هذه المناسبة العظيمة آملاً أن تحلّ بركاتها مع الأمن والأمان والسلام والاستقرار على بلدنا العزيز لبنان وعلى سائر البلدان العربية والاسلامية وشعوب العالم المستضعفة التي أنهكتها الحياة المادية المتوحّشة الخالية من سموّ الروح والاخلاق فحوّلت حياتها إلى جحيم لا يطاق لا تعرف الهدوء والاستقرار بما فيها الامم التي يُنظر إليها كنموذج للرقي الحضاري المتمثّل في التنظيم المدني والتقديمات الاجتماعية وبناء الجامعات والمراكز العلمية والأبحاث الفكرية والتقدم الصناعي الهائل والشركات الكبرى ومنها شركات إنتاج الأسلحة.

ولكن كل ذلك لم يكن لتحقيق أهداف إنسانية وإن ظُلّل بهذا الشعار، الا ان الفلسفة التي حكمت هذا الجهد هي السيطرة والنفوذ والتحكّم، أي فلسفة “أن الحياة قائمة على أساس الصراع وأن البقاء للأقوى” الذي دفع المتبنين لهذه الفلسفة إلى السعي إلى ما يسمى بالآحادية القطبية والمنع من تعدّدها بما جرّ على الانسانية ويلات الصراع والحروب، فكان كلّ هذا التقدم المادي من أجل الإمساك بزمام العالم وعلى حساب باقي الامم وليس في سبيل خدمتها أو لأهداف إنسانية محكومة بفلسفة إيمانية أخلاقية.

أيها الأخوة والاخوات، إنّ شعارات الانسانية وشعار الحرية لم تكن إلا نفاقاً سعت الحضارة المادية من ورائه ليكون جسراً للعبور إلى أهدافها المبيّتة التي سهّلت لها الطريق للوصول إلى غاياتها في السيطرة على منابع الثروات لتحتكرها وتحول دون تمكّن الآخرين من استثمارها حتى لا تمتلك القدرة على منازعتها والوقوف بوجهها.

ولئن مكّنت هذه الفلسفة أصحابها من بناء هذا الهيكل الضخم والمخيف بمؤسساته وجيوشه وأدواته وأسلحته المدمرة، ولكنه مع ما أمتلك من القوة والامكانيات الهائلة لم يستطع تحقيق الأمان والاستقرار، بل كان ذلك دافعاً لزيادة الشعور بالخوف من الآخر الذي ينازعه النفوذ والسيطرة والسعي الى التفرّد، وهكذا عاش العالم دائماً حالة من الخوف الدائم من نشوب واستعار الحروب بين القوى الكبرى التي يتربّص بعضها الفرص للانقضاض، وهو ما يعيشه العالم اليوم ويتسبّب بالأزمات الغذائية ويودي باستقرار الدول والشعوب الضعيفة التي تدفع ثمن صراعات القوى الكبرى التي حققت تقدمها وازدهارها على حساب هذه الدول وهذه الشعوب.

لقد حقّقت الحضارة المادية تقدّماً مادياً هائلاً ويسّرت الحياة وحوّلت الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة وغزت الفضاء، ولكنها احتكرت الإنتاج ونهبت خيرات الشعوب وسلبتها الأمان وتحكّمت بمصائرها وجعلت العالم بما فيه شعوبها يعيش حالة الخوف وعدم الاستقرار والازمات التي لا تنتهي من الازمات النفسية وتفكّك الاسرة ونشر الأنانية الفردية والجماعية والتعامل مع الانسان تعاملاً مادياً صرفاً لا محلّ فيه للرحمة والشفقة والاخلاق، وكانت نتائج هذه الحضارة أن أصابت الانسانية وأول ما أصابت المجتمع الغربي بخطر الانحلال والزوال بما انحدر اليه من مخالفة الفطرة الانسانية والالهية بتشريع الشذوذ الجنسي والهبوط إلى ما دون الحيواني، نتيجة طبيعية لهذا النهج، وهو ما يحذّر منه كبار المفكّرين الغربيين ولكن سبق السيف العذل، وهو أسوأ النتائج لهذه الحضارة المتخلّفة ، والكلام في ذلك يطول فإن المهم هي النتائج التي تصدِّق الأحكام لا التي تصدِّرها.

إن الحضارة الغربية بشكل خاص والمادية بشكل عام ليست سوى هيكل ضخم ولكنه فارغ سرعان ما سينهار، والى الذين أبهرتهم هذه الحضارة وظنّوا أنها منيعة عن الانهيار ولا تضعف وأخذوا بمظاهرها فليقرؤا التاريخ الذي يكرّر نفسه، فقد مرّت حضارات ظنّ الذين يؤخذون بالمظاهر ولا يدركون الحقائق من قصيري النظر أنها باقية لا تزول لكنها سرعان ما انهارت واصبحت أثراً بعد عين، ولولا أن الله سبحانه سبقت رحمته غضبه ببعثه الرسل والأنبياء لما بقي لهذا الوجود من وجود.

أيها الاخوة والاخوات، إن شهر رمضان المبارك هو أحد وجوه الرحمة الإلهية التي نستعيد فيها لحظة التأمل والتفكر لنعود إلى تلمّس مواضع أقدامنا وتصحيح توجيه مسالك دروبنا بعد أن تاهت بنا عن طريق الحق الذي يوصلنا إلى مبتغانا ويحقّق انسانيتنا التي لا معنى لها وتبقى شعاراً من دون روح حين تتجرّد عن الأخلاق والقيم الإلهية، فشهر رمضان يحلّق بأرواحنا إلى السماء وينمّي فينا روح الصبر والارادة والعطاء والمحبة ويخلّصنا من الانانية وحبّ الذات والتكالب على الدنيا وأسر الشهوات ليكون كل منا إنساناً مسؤولاً لا لاهياً ولا عابثاً.

إنّ الذين تخلوا عن مسؤولياتهم والهتهم مصالحهم وذواتهم عن النظر الى معاناة مواطنيهم من اهل الحاجة والفاقة بفعل سياساتهم وأنانياتهم وخيانتهم للأمانة التي تحمّلوها لن ينظر الله إليهم يوم حاجتهم وفاقتهم حين يذهبون اليه، وقد تركوا خلفهم ما جمعته أيديهم وأمسكوا عن إنفاق الفضل في سبيل الله، ما لم يعودوا الى ضمائرهم ويبادروا إلى تصحيح سياساتهم وانقاذ وطنهم ومواطنيهم واخراجهم من الجحيم التي ألقاهم بها فراعنة المال والسياسة والسلطة، وما كنا لنصل إلى هذا الدرك لولا أن أطعناهم بعد أن استخفوا بنا (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) فاتقوا الله وتوبوا اليه من ظلمكم لأنفسكم، (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ)، واستقبلوا شهر الله تعالى بروحية الايمان كما اوصاكم نبيكم (ص) فقال:

“إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ. شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اللهِ أَفْضَلُ الشُّهُورِ، وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ الأَيَّامِ، وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اللَّيَالِي، وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ. هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللَّهِ. أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ، وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ، وَعَمَلُكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ، وَدُعَاؤُكُمْ فِيهِ مُسْتَجَابٌ”

وبروحية العطاء كما دعاكم فقال (ص): أيها الناس، من فطّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر، كان له بذلك عند الله عتق نسمة ومغفرة لما مضى من ذنوبه، فقيل: يا رسول الله، وليس كلنا يقدر على ذلك، فقال صلى الله عليه وآله: اتقوا النار ولو بشق تمرة، اتقوا النار ولو بشربة من ماء. أيها الناس، من حسّن منكم في هذا الشهر خلقه، كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام.

وبروحية المستجيب لله الواثق به كما أراد لكم رسول الله (ص) فقال: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ قَد أَقبَلَ إِلَيكُم شَهرُ اللهِ بِالبَرَكَةِ وَالرَّحمَةِ وَالمَغفِرَةِ. شَهرٌ هُوَ عِندَ اللهِ أَفضَلُ الشُّهُورِ، وَأَيَّامُهُ أَفضَلُ الأَيَّامِ، وَلَيَالِيهِ أَفضَلُ اللَّيَالِي، وَسَاعَاتُهُ أَفضَلُ السَّاعَاتِ. هُوَ شَهرٌ دُعِيتُم فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ، وَجُعِلتُم فِيهِ مِن أَهلِ كَرَامَةِ الله. أَنفَاسُكُم فِيهِ تَسبِيحٌ، وَنَومُكُم فِيهِ عِبَادَةٌ، وَعَمَلُكُم فِيهِ مَقبُولٌ، وَدُعَاؤُكُم فِيهِ مُستَجَابٌ، فَاسأَلُوا اللهَ رَبَّكُم بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ، وَقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ، أَن يُوَفِّقَكُم لِصِيَامِهِ، وَتِلاوَةِ كِتَابِهِ، فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَن حُرِمَ غُفرَانَ الله فِي هَذَا الشَّهرِ العَظِيمِ. وَاذكُرُوا بِجُوعِكُم وَعَطَشِكُم فِيهِ، جُوعَ يَومِ القِيَامَةِ وَعَطَشَهُ.

فلتكن ثقتكم بالله ودعوته دون الناس وتمسكوا بحبله، فمن يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم، (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

بهذه الروحية نستقبل شهر رمضان ونسأل الله تعالى أن يلهم اللبنانيين بفضله توحيد كلمتهم لما فيه خيرهم ومصلحة بلدهم وان تتخلى القوى السياسية عن رفضها للحوار والتلاقي على كلمة سواء، فهو السبيل العقلائي الوحيد لإخراج لبنان من هذا المأزق، فإن التعنّت والاصرار على السلبية إطالة لمأساة اللبنانيين وفي النهاية مزيد من التحلّل للمؤسسات والمعاناة للمواطنين وفي النهاية سيكون مرجع الجميع الجلوس إلى طاولة الحوار والتوافق على الحل.

أعاده الله على اللبنانيين وقد تعلموا من تجارب الماضي وتحرّروا من أسر الطائفية ودعاتها إلى رحاب الدولة التي لا تُبنى الا بالوعي والجهد المخلص من أبنائها الذين يعرفون قدر المسؤولية الوطنية والانسانية والايمانية الملقاة على عواتقهم ولا يتعبدون القول (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ)وحسبنا الله ونعم الوكيل.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته