خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله

خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله

ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به الإمام الرّضا أحد أصحابه، حين جاء إليه في مثل هذا اليوم (آخر جمعة من شعبان)، فبادره الإمام قائلاً: “يا أبا الصّلت (وهو اسمه)، إنَّ شعبان قد مضى أكثره، وهذا آخر جمعة منه، فتدارك، في ما بقي منه، تقصيرك في ما مضى منه، وعليك بالإقبالِ على ما يعنيك، وترك ما لا يعنيك، وأكثر من الدّعاء والاستغفار وتلاوة القرآن، وتب إلى الله من ذنوبك، ليقبل شهر الله عليك وأنت مخلصٌ لله عزَّ وجلَّ، ولا تدعنَّ أمانة في عنقك إلَّا أدَّيتها، ولا في قلبك حقداً على مؤمن إلَّا نزعته، ولا ذنباً أنت ترتكبه إلَّا أقلعت عنه، واتَّق الله، وتوكَّل عليه في سرائرك وعلانيتك، {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}، وأكثر من أن تقول في ما يتبقى من هذا الشَّهر: “اللَّهمَّ إن لم تكن غفرت لنا في ما مضى من شعبان، فاغفر لنا في ما بقي منه”.

أيُّها الأحبَّة، لقد بيّن الإمام الرضا من خلال وصيته هذه ما ينبغي علينا القيام به حتى نكون جديرين بضيافة الله في شهره، ونكون مؤهلين للحصول على الثّواب والأجر المضاعف وبلوغ الدّرجات التي وعُد بها الصائمون في شهر رمضان.. ونكون بذلك أكثر قرباً من الله وقدرة على مواجهة التحدّيات”.

والبداية من هذا البلد الذي يستمر التدهور فيه على صعيد العملة الوطنية أمام الدولار الأمريكي بعدما تجاوز المئة ألف ليرة والمرشح دائماً للازدياد لعدم وجود أية حلول جذرية تساهم في إعادة الاعتبار لليرة اللبنانية، وبعدما توقفت المعالجات الآنية التي كان يقوم بها المصرف المركزي والذي كان يجمد هذا الانهيار لفترة زمنية لكن لا يحلها لتبقى بعدها العملة الوطنية رهينة لعبة الصرافين الكبار وجشعهم ومن يقف ورائهم، وتخضع للواقع السياسي والاقتصادي المأزوم داخلياً وخارجياً، ما يهدد قدرة اللبنانيين على تأمين أبسط مقومات حياتهم وأدى إلى عدم قدرة المؤسسات العامة والمدارس الرسمية والجامعات على أداء دورها، ويخشى أن يصل ذلك إلى المؤسسات الخاصة للأعباء الثقيلة التي باتت تنوء بها..

يجري ذلك فيما يستمر الواقع السياسي على ما هو عليه في إدارة الظهر والتعامل مع ما يجري وكأن البلد بألف خير والناس قادرون على التحمل، فبدلاً من أن تستنفر كل القوى السياسية جهودها وتتناسى لأجلها خلافاتها وصراعاتها وتتوحد لمعالجة هذا الانهيار وإيقاف هذا النزيف، نجد إمعاناً لديها في الانقسام والتصويب على بعضها البعض ما يعطل أية فرصة لحلول تخرج البلد من حال الانهيار التي وصل إليها، والذي أصبح من الواضح أن بداية الطريق للوصول إليها يبدأ بانتخاب رئيس للجمهورية، وتأليف حكومة قادرة على النهوض بالبلد، والتعاون مع المجلس النيابي لإجراء الإصلاحات الضرورية لاستعادة ثقة اللبنانيين ببلدهم وثقة العالم به، حيث يستمر الكباش على هذا الصعيد من دون أن يبدي أي فريق رغبة بالتنازل لحساب الوطن وإنسانه، ما يبقي هذا الاستحقاق رهينة الوقت غير المحدد وبانتظار تبدلات لدى هذا الفريق أو ذاك، أو تغييرات في موازين القوى أو توافقات خارجية لا يبدو في الأفق أنها ستحصل ويمكن البناء عليها…

ومن هنا فإننا، ورأفة بهذا البلد وباللبنانيين، نعيد التأكيد على كل القوى السياسية المعنية بتأـمين هذا الاستحقاق أن يصغوا جيداً إلى معاناة اللبنانيين، بعد أن لم يعودوا قادرين على تحمل الأعباء الحالية، وبالطبع لن يكونوا قادرين على تحمل المزيد منها، بأن يسارعوا لأداء دورهم على هذا الصعيد، وأن يتقوا غضب الشعب الذي لن يصبر طويلاً، ويسرعوا في التوافق على رئيس نريده أن يأخذ في الحسبان مصلحة اللبنانيين التواقين إلى الخروج من هذا الجحيم.

ونبقى على صعيد الإجراء القضائي الذي جرى ويجري بحق حاكم المصرف المركزي، فإننا نعيد التأكيد بإننا مع أي إجراء جدي يساهم في كشف حقيقة ما كان يجري في أروقة هذا المصرف كونها المسؤولة عن الواقع الذي وصل إليه البلد.

إننا نأمل أن يكون هذا الإجراء يشكل بداية الطريق للإصلاح، فالبلد عانى ويعاني من عدم المحاسبة والحماية التي كانت تتأمن لمن عبثوا به وبمقدراته للتغطية التي كانت تتأمن لهم…

وإن كنا نخشى أن لا يؤدي ما جرى إلى ما يصبو إليه اللبنانيون من محاسبة تساهم في إخراج البلد من النفق الذي دخل إليه بفعل التدخلات الخارجية والداخلية التي تضمن عدم محاسبة الكبار وإغلاق الملفات بعد فتحها، أو إبقاء الذي جرى في دائرة محدودة بشخص الجهات التي تتولى هذا الإجراء.

وإلى فلسطين المحتلة حيث نتوقف عند العملية الجريئة التي حصلت في أحد مواقع العدو الصهيوني والتي أقضت مضاجعه وجعلته حائراً، والتي ادعى أن منفذها قد تسلل من لبنان رغم أنه لم يقدم بعد دليلاً على إدعائه، إننا نخشى أن يكون ما يجري هو مقدمة لمغامرة قد يقوم بها العدو في هذا البلد والتي يهدف منها إلى تخريب أي توافق كالذي جرى أخيراً بين الجمهورية الإسلامية في إيران والمملكة العربية السعودية أو للهروب من أزمته الداخلية، ما يستدعي مزيداً من الوعي والاستعداد والتماسك لمواجهة أي مغامرة قد يقدم عليها العدو، وإن كنا لا نزال على ثقة أنه لا يزال يخشى من أي مغامرة يقدم عليها بعد التجارب المرة التي تعرض لها في لبنان ولا تزال حاضرة لديه وتؤرق جنوده…

ونبقى على صعيد التوافق الذي حصل بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والمملكة العربية السعودية لنرى أهمية ما جرى وهو ما كنا ندعو إليه دائماً لما يؤدي إليه هذا التوافق من تعزيز اللحمة التي ينبغي أن تكون بين العرب والمسلمين لمواجهة التحديات التي يتعرضون إليها، وتساهم في التخفيف من التوترات التي طالما عصفت بهم ومنعتهم من من تطوير قدراتهم وإمكاناتهم.

وأخيراً نتقدم بالتهنئة إلى كل المسلمين بقدوم شهر رمضان المبارك الذي يصادف إنشاء الله يوم الخميس القادم، والذي نسأل الله أن يبلغنا إياه وأن يكون لنا شهر خير وبركة ويحمل إلينا تباشير الأمن والاستقرار ويعزز أواصر الوحدة في ما بين المسلمين ويبعث الخير في نفوسهم لتجاوز الواقع الصعب الذي يتهددهم…