فضل الله: محاضراً في المركز الإسلامي الثقافي في النجف الأشرف لا نهوض لبلداننا إلا باستقلال العقل ونبذ العصبيات ومواجهة تحديات التنمية والاحتلال

نظم المركز الإسلامي الثقافي في النجف الأشرف لقاء حواريا مع سماحة العلامة السيّد علي فضل الله بحضور فضيلة الشيخ فؤاد خريس والسيد شفيق الموسوي وبمشاركة جمعٍ من العلماء والشخصيّات الدينيّة والأكاديميّة والاجتماعيّة.

في البداية عبر سماحته عن دواعي سعادته وسروره لوجوده بين أهله وفي هذه المدينة المباركة، النجف الأشرف، والتي ولدت فيها جسداً نما وترعرع في أحضانها، وفي الوقت نفسه أنا أدين لها روحاً، ففيها مرقد، هذا الإمام العظيم أمير المؤمنين علي(ع) والذي تشكلت منه رؤاي وأفكاري وتطلعاتي وأشواقي وأهدافي وسلوكي ومنهجي في الحياة

وقال سماحته: على هذا الخط خط رسول الله(ص) الذي كان هو مدينة العلم وعلي بابها، وجد هذا المركز ليكون موقعاً من مواقع العلم والمعرفة والثقافة، والتي هي أهم ما يحتاجه الإنسان في كل مرحلة من مراحل تاريخه، فبها تتميز الأمم والأوطان، قوة وضعفاَ، وحدة وانقساماً، استقلالاً وتبعية… هذه كانت سمة التاريخ، فكيف حالنا اليوم في عصر العلم والمعرفة.

ونبه سماحته على أن أكثر ما ينقصنا اليوم أن ندخل في هذا العصر، والذي للأسف تخلفنا عنه كثيرا بعدما كنا في الخطوط الأمامية في صناعة العلوم والمعارف، وهل يمكن أن ننسى العراق وحواضره ومدنه، فمن هذا المهد كانت تنطلق الإنجازات الحضارية إلى كل أنحاء العالم… في المعارف النظرية والصناعات العملية… فلسفة وفكراً وأدباً… علوم الطب والفلك… علوم النفس والإنسان والمجتمع…

وأضاف سماحته: لقد سقطنا في امتحان التنافس الحضاري وفي صراع الوجود وذلك عندما انطفأت تلك الشعلة الروحية التي أوقدها الإسلام والتي هي وحدها أطلقت فينا تلك الإرادة الفذة… إرادة الحياة والعلم والتغيير والتي انعكست نهوضاً في مختلف مجالات الحياة…

ورأى سماحته: أن ما بنا من ضعف أو تخلف أو انقسامات أو انكسارات ليست قدراً لا بد من التسليم له، كما يشيع أولئك الطامعون ببلادنا وثرواتنا الذين يردون هزائمنا وانتكاساتنا وهامشيتنا الحضارية إلى أسباب تتعلق بالعنصر أو الجنس أو الجغرافيا، أو المناخ أو الدين، واعتبارها هي المسؤولة عما يشيعوه عنا من تخلف حضاري، وهي التي تعيق عقولنا عن التفكير وإرادتنا عن الفعل وطاقاتنا عن الإنجاز… فهذه العناصر لو كانت هي خلف الإخفاقات لما كانت أمتنا سابقاً في طليعة الأمم المبدعة علماً وفكراً وصناعة وطباً وعمارة وفناً فيما كانت الأمم الأخرى التي تتصدر اليوم المشهد العالمي على هامش حضارتنا…

 

وأضاف سماحته: إن للماضي ظروفه وأوضاعه وتحدياته، ولعلمائه ومفكريه أفهامهم وثقافتهم وأفكارهم واجتهاداتهم، فلا ينبغي أن تأسرنا فكرة أو تجربة أو اجتهاد، بل نبني على ما أقاموه من بنيان، ومن ثم فإن لهذا التاريخ العربي والإسلامي محطاته ومنعطفاته، في إخفاقاته ونجاحاته، لكن علينا أن نفهم ونعي خصائص بلادنا في الحاضر، وسمات مجتمعاتنا، نقاط القوة والضعف، ومن دون أن يأسرنا نموذج أو نمط.

ولفت سماحته إلى أننا نعيش في عصر المعرفة، عصر المعلومات التي تتدفق من كل حدب وصوب، والأغلب منها يأتي من عالم الغرب، فما يُقدّم من هذا العالم الذي نعيشه، عالم الفضائيات والإنترنت من أفكار ومعلومات ومفاهيم وفنون ومناهج حياة ونماذج إنسانية واجتماعية، فيه الصحيح والفاسد، ومن واجباتنا الشرعية الأولى في الزمن الذي نعيشه أن نمتلك المعرفة الصحيحة والأدوات الفكرية اللازمة للتبصر بما يعرض والتمييز بين ما هو نافع ومضر، وبقدر ما نملك من معرفة بالفكر الإسلامي الأصيل في معارفه ومفاهيمه وتشريعاته وتصوراته ونماذجه ومنهاجه، وما نملك من حكمة وبصيرة وفهم للتجارب الإنسانية، فإننا نستطيع أن نعرف ما نأخذ ونستلهم، فالكثير مما يطرح من أفكار ونماذج تطرحها المعلومة الفضائية وهي مسلحة بالصورة الجاذبة إنما مصدرها فئات هامشية في المجتمع الغربي لا دور فعلي لها في ما يشهده من تقدم على أكثر من صعيد، أو هي تصورات وأفكار سطحية مسيئة للحياة وتطورها إنما أخذت قوتها من وهج القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية التي يمتلكها الغرب…

وشدد سماحته على ضرورة أن نتخذ أقصى درجات الحذر لتحصين مجتمعنا وعائلاتنا وأطفالنا من هذا الضخ الإعلامي، وحيث كل منا بات أسير هذا الجهاز الخليوي الذي قد يبث في كثير مما يبثه سموماً يغلفها بالصورة الجميلة وبالمعلومة الجاذبة، وهنا ندعو إعلامنا الرسمي ومدارسنا وجامعاتنا وخبراءنا وعلماءنا واختصاصيينا في مجالات التربية وعلوم النفس والإعلام والاجتماع ومساجدنا وأهالينا، أن نكون على مستوى المسؤولية لإيجاد السبل الكفيلة للتعامل مع هذا الواقع بالشكل الذي يحقق لنا الإيجابيات مع الحد الأدنى من السلبيات…

وتوقف سماحته عند أهمية هذه المراكز الثقافية في نشر الوعي، وخصوصاً الفكر الإسلامي الحضاري الذي لا بد منه في مواجهة هذا الانشداد غير العقلاني والواقعي للماضي في صراعاته وانقساماته وعصبياته والتي لا تكف أيضاً الكثير من مواقعنا ومنابرنا عن الاستغراق فيه، فيما أغلب الأمم منشدة للاهتمام بما يسد حاجاتها ويزيد قوتها ويشدد من تماسكها في بناء القوة وتعزيز عوامل التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وتقفز في كل يوم أشواطاً كبيرة في طريق العلم والمعرفة…

وأوضح سماحته أن لا ينقصنا أي من الشروط للنهوض بأوطاننا، ولا سيما العراق هذا البلد العزيز، فنحن نملك الكثير من الطاقات العلمية والفكرية وقد أنعم الله علينا بثروات وموارد وبركات كثيرة… لكن ما يعطل هذا النهوض هو هذا الاضطراب السياسي المتواصل، والذي يهدد الاستقرار الاجتماعي، ويعطل مشاريع التنمية. ولعل أبرز عوامل هذا الشلل العام والذي يدفع شعبنا أثماناً باهظة بسببه، هو هذا الانقسام السياسي، العميق بين مكونات هذا البلد، وهو ما نعيش مثيلاً له في لبنان وغيره، أيضاً حيث شعبنا يعاني ما يعانيه من انقسام، وهو انقسام تستغله الدول الكبرى الطامعة وتستثمره لإبقائنا في حال من الضعف ولتحقيق شروطها…

ولاحظ سماحته أنه إذا كان أغلب السياسيين في بلداننا يعتاشون من هذا الانقسام لتعزيز مواقعهم ونفوذهم وثرواتهم، ولهم مصلحة في تغذيته للإدعاء بأنهم يدافعون عن طوائفهم ومذاهبهم وأقوامهم، فإن ليس لهذا الشعب مصلحة في أن ينساق خلف هؤلاء.

وحمّل سماحته أهل الوعي والكفر والأساتذة الجامعيين والطلاب وخصوصاً العلماء مسؤولية أن يواجهوا هذا الواقع الانقسامي المؤلم بأن يقوموا برسالتهم الدينية والإنسانية على أكمل وجه… كي نعيد لديننا وجهه الحقيقي والرسالي… الدين الرحماني، الذي وحده يؤلف بين القلوب، وبغيره لن تتآلف {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}، إذ بقدر ما تنشد مذاهبنا نحو الانغلاق والتقوقع والعصبية نحن نبتعد عن الإسلام، وبقدر ما نقترب من الإسلام نقترب كمكونات بعضنا نحو بعض وتقوى الوحدة وتشتد اللحمة بيننا، وذلك يؤدي إلى سقوط التجار من هؤلاء السياسيين الذين يعتاشون على الانقسامات، وبذلك نمهد الطريق نحو بناء وطن أفضل، ونحو نظام أكثر عدالة.

وختم سماحته: لن نكون مسلمين حقاً إلا إذا كانت العدالة هي القيمة المركزية التي نبني عليها أنفسنا، ونقيم على أساسها علاقاتنا وتنطلق بها مواقفنا ليكون العدل للجميع، أن نكون مع العادلين حتى لو كانوا من غير طائفتنا أو مذهبنا، العدل للإنسان كله.

وختم سماحته بالإعراب عن تفاؤله بإعادة العلاقات بين الجمهورية الإسلامية في إيران والمملكة العربية السعودية، والتي لا نرى أن أهميتها الكبرى تنحصر على مستوى الدولتين وتطورهما فحسب، بل في انعكاساتها الإيجابية على مستوى بلدان المنطقة استقراراً لها ونبذاً للانقسامات في داخلها وشداً للروابط بين مكوناتها حتى تتفرغ للتحديات الكبرى التي تواجهها تحديات التنمية والإعمار، وتحريراً لها من التبعية، وتهيئة مقومات الاستقلال والنهوض، وتوفيراً لشروط الدعم لفلسطين في مقاومتها ضد أعنف هجوم عنصري يستهدف شعبها.