خطبة الجمعة للشيخ الخطيب في مقر المجلس

ادى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس والقى خطبة الجمعة التي قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله الطاهرين واصحابه المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين ونستغفر الله ونتوب اليه انه هو التواب الرحيم (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) صدق الله العلي العظيم.
السلام عليكم ايها الأخوة المؤمنون والاخوات المؤمنات ورحمة الله وبركاته.
كثيرة هي المسائل التي أشار القرآن إلى خطرها ووجوب التنبّه لها وركّز على إيجاد حالة الوعي بشكل عام لدى الافراد وبالطبع للمجتمع ليكون بمأمن من الأخطار التي يمكن أن تتسلل من خلال بعض مناطق الضعف في البنيان الاجتماعي والتربوي والثقافي والسياسي كما هو الحال في كل مجتمع من المجتمعات البشرية، فإن المجتمع كالإنسان الذي يكون محصّناً من اختراق المرض طالما كان متماسكاً وقوياً فإذا ما طال الضعف بعضه أمكن للمرض أن ينال منه ويُنهيه إن لم يتدارك بالمعالجة وإعطاء الدواء المناسب بعد تشخيص الداء، وقد يكون المرض مستعصياً على المعالجة كما هو الحال في البناء اذا لم يقم على أساس متين ووفق الموازين العلمية كما لو كانت مواد البناء فاسدة فلن تكون قابلة حتى للمعالجة بل ربما سقطت على ساكنيها دفعة واحدة وهم نائمون دون أن يُتنبه للخلل.
مع أن البنيان الاجتماعي أشد تعقيدا ًوخطراً من البنيان المادي، فهو عبارة عن مجموعة من الروابط الاجتماعية والثقافية والقيم الأخلاقية و التجارب الانسانية ، ولذلك فإن أي خلل في هذا البنيان الاجتماعي ستكون له عواقب خطيرة قد لا تكون محصورة في نطاق محدود وإنما على البشرية كلها، بل على الحياة برمتها، وقد مرّت البشرية على مرّ التاريخ بمآسٍ رهيبة وويلات متكررة هي ليست قدرا ًلا يمكن تجاوزه، وإنما نتيجة خلل في التفكير وخطأ في الاختيار وخضوع لمنطق الغريزة وجموحها الذي أخذ بها بعيداً عن منطق العقل استكباراً وعلوّاً.
ولذلك كان الإسلام بشكل خاص والدين بشكل عام حريص على الاخذ بيد الإنسان والمجتمع بتعريفه على مناطق الضعف التي يجب معالجتها بدل الاستسلام والانقياد لها كما هو الواقع في كل التاريخ البشري الا في فترات تاريخية قصيرة نسبياً، حيث ساد منطق الغلبة والصراع وتحوّلت الحياة إلى غابة يفترس فيها القوي الضعيف
أيها الاخوة والاخوات، لقد سلَّط الإسلام الضوء على هذه الحقيقة من أجل أن يعمّق الوعي في نفوس المؤمنين وألا يكرروا نفس التجربة بما قصّ عليهم من تجارب الاقوام والامم التي سبقتهم وأن يُحصّن هذه التجربة الجديدة بكل عوامل القوة والمناعة ليس بخلق أوهام لديهم وإنما بالتزامهم التعاليم والتوجيهات واسترشدوا بما قص عليهم من أنباء ما سبق، والا فإنهم لن يكونوا بمأمن من نفس النتائج ، (إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
روى أبو سعيد الخدري (رض) أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (لتتبعنَّ سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا حجر ضبّ لتبعتموه).
ولئن كان هذا من رسول الله (ص) أخبارَ إعجازٍ لأنه اخبارٌ عن أمر سيحصل، والاسلام كان ما يزال في بدايته وعلى الاقل ان ضمانة بقائه موجودةٌ وهو نفس وجود رسول الله، أضف إلى ذلك أن التغيير الاجتماعي والانقلاب التام لا يمكن حصوله بهذه السرعة ، فهو (ص) يشير الى سنة من سنن التاريخ ومع ذلك فهو يحاول أن يثير لديهم الوعي بهذه الحقيقة ليكونوا أكثر حرصاً ووعياً بحقائق التاريخ وتحوّلاته، وان التحوّل إنّما يكون باختيار الناس والمجتمعات وليس أمراً غير اختياري، وأن سنن التاريخ إنما تحصل بتوفر أسبابها التي هي باختيار الأمم، ولذلك فهو يحملهم المسؤولية عن هذا التحول ، و هي أسباب ثابتة لا تتغير كما هي الأسباب التكوينية التي قد يتسبب الإنسان بإفسادها حينما يحاول الخروج عنها يقول الله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ).
فيستخدم الموارد الطبيعية بما يضرّ بالطبيعة ويتسبب بالكوارث البيئية من الفيضانات والجفاف والتلوث والتصحر والأمراض ولربما الزلازل والحروب للاستئثار بالموارد الطبيعية بسبب الجشع والتفرد بالقدرة والانانية.
ومن القضايا التي أراد الإسلام أن يثيرها في الوعي الاجتماعي لخطرها على بقاء المجتمع الاستجابة للإشاعة التي يستخدمها العدو لإثارة الرعب والخوف من أجل هزيمته النفسية وتعطيل مصادر القوة لديه.
قال تعالى: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً).
فمن الوسائل القديمة المُتّبعة من قبل العدو بثّ الاشاعات الكاذبة والاستماع لما يقوله العدو عن طريق عملائه الذين يتخذون هذا الأسلوب من الحرب النفسية لإضعاف المعنويات وهي من أخطر الحروب، وهي اليوم أخطر بسبب سرعة انتشارها للتقدم الهائل في عالم الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي ، وقد تُستخدم من قبل بعض ضعاف النفوس لمآرب شخصية حقيرة كالحصول على مال او منصب بتشويه السمعة والانتقام، وقد يكون هؤلاء ممن يتظاهرون بالإيمان ويتزينون بزيّ العلماء وهو منهم براء، فيختلقون أكاذيب واباطيل وقد أُستخدم هذا الأسلوب مع رسول الله (ص) وأهل بيته ومع علماء ومجاهدين وصالحين، وهذا من أخطر أساليب الفساد واحد وسائل الدجل الديني الشيطاني الذي ينشر الفتن ويثيرها بين المؤمنين بإسم الدفاع عن الدين لإسقاط المجتمع من الداخل.
وقد يُستخدم أيضاً من قبل بعض الجهلة وقد يستخدم العدو هؤلاء بدفع غير مباشر مُستغلاً عامل البساطة وعدم القدرة على إدراك ما يرمي اليه من أهداف خبيثة ثقافية أو سياسية أو مُستغلاً الازمات الاجتماعية والحاجة، فيقع البعض في شراكهم ويؤدي الدور المطلوب في التخريب عبر الفصل بين القيادة والقاعدة حتى يستطيع أن يأخذها إلى حيث يريد لأن الافتقاد للقيادة يعني افتقادها للموجِّه والمرشد الذي تعود اليه عند الحاجة وعندما تلتبس الامور فيسهل قيادها من قبل العدو.
لذلك فان القرآن يثير هذه المسألة ويلفت النظر إليها حتى يكون المجتمع في مأمن من هذا الشر، وهو ما يحاول العدو القيام به والتركيز عليه في الوقت الراهن من التشكيك و اختلاق الأكاذيب وإلصاق التهم لعزل القيادات المؤثرة في الرأي العام واعتماد مصادر غير موثوقة وإيجاد مرجعيات بديلة لتكوين رأي عام مؤيد للأفكار البديلة التي يتم ترويجها لمصلحة العدو.
لقد قلنا ان هذه الاساليب استخدمت في مواجهة الإسلام وقياداته فأُتهم النبي (ص) بالسحر والكذب والجنون وأُختلقت الأحاديث عن لسانه المؤيدة للحاكم الغاصب والسلطة الانقلابية كما فعل بنو امية بعد فشلهم في الحؤول دون دعوته، وهو ما واجه أهل البيت(ع) من اتهامات طلب السلطة وتعرّضهم للخذلان من قبل الأمة، إما لأنها لم تبلغ درجة الوعي الكافي الذي يحصّنها أو أنها انكفأت خوفاً وجبناً ومالأت الظالم، أو انها مالت للراحة والاغراء أو للاثنين معاً، وبالتالي استطاعت السلطة أن تعزل الأمة عن قيادتها الحقيقية وهو ما حصل مع الامام موسى الكاظم (ع) الذي يصادف اليوم ذكرى شهادته حيث رمت به السلطة في السجن ثم اغتالته بالسم دون أن تلقى ادنى ردة فعل تتناسب وهذه الجريمة النكراء التي أُرتكبت بحق الإسلام وبحق نبيه وعترته عليهم السلام.
أيها الاخوة والاخوات، إنّنا نتذكر اليوم هذه الشهادة لإمامٍ هو حفيد النبوة الذي قدّم للدين وللأمة رغم كل الظروف القاسية والصعبة التي واجهها أجَلّ الخدمات للحفاظ على سلامة الرسالة نقية من التحريف والتشويه ونقلها للأجيال عبر الائمة من أبنائه الطاهرين، وهذا التراث الضخم من الفقه والتفسير وغيرها من العلوم ومواجهة أشكال التحريف والتأويل وحركات الانحراف والزندقة من الغلاة أو المعاندين.
إنّها نفس الاساليب يكررها الأعداء في مواجهة الحق في كل زمان حين تعييهم الحيلة والمنطق يلجؤون إلى استخدامها من الاشاعات الكاذبة واستخدام الاستهزاء والسخرية والاتهامات الباطلة واثارة الضجيج والصخب لمنع الناس من سماع صوت الحق، وقد ينجحون لفترة من الزمن ولكن نور الحقيقة لا يُحتجب وسرعان ما يخترق نوره الحجب (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)، “وانما يُفتضح الفاجر وهو غيرنا يا عدو الله ” كلمات قالتها السيدة زينب (ع) في جوابها لابن زياد يحسب أنه بقتل الحسين (ع) قد أسدل الستار على الحق وأنهى القضية الى الأبد متناسيا ًقول الله تعالى (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)، وقوله تعالى المعبّر عن السنة الإلهية الثابتة التي لا تقبل التغيير والتبديل (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا).
إنّها القاعدة التي نستند إليها في الصراع المستمر بين الحقّ والباطل الذي يتخذ أوجهاً وصوراً مختلفة، ولكن الحقّ يبقى حقاً والباطل يبقى باطلاً، والصراع مع العدو الاسرائيلي هو أحد أوجه هذا الصراع ولن يضيرنا أنّا قليل عديدنا حينما قرّرنا مواجهة عدوانه وهو واضح لا لبس فيه، ونحن نعرف أن هذه المواجهة مكلفةٌ وأنه سيرتقي منا شهداء وأن موازين القوى المادية هي في صالحه وأن القوى الدولية إلى جانبه بما فيها مجلس الأمن الدولي، ولكنّ إيمان شعبنا بحقّه وإيمانه بربّه وبما وعده من النصر وتوكّله عليه وقراره بالتحمل والصبر دفعه إلى تبني المواجهة والمقاومة التي أثبتت صحة هذا الخيار الذي انتهى إلى نصر مؤزّر حرّر لبنان من الاحتلال ووضع حدّاً لاعتداءاته على السيادة اللبنانية بفضل دماء الشهداء كما وضع حدّاً للخوف من جبروته ووحشيته واكتسى لبنان ثوبَ عزّ غير مسبوق، بل احتفى العالم العربي بهذا النصر المؤزّر واُتخذ يوم الخامس والعشرين من أيار عيداً رسمياً سُميَ بعيد التحرير.
لقد تمّ ذلك بفضل القادة الشهداء الذين قدّموا أنفسهم فداءً للبنان واللبنانيين وبفضل المقاومين الشرفاء ولكل من ساند وصبر وتحمل أعباء هذه المقاومة.
لقد كانت ظروف نشأة المقاومة الداخلية والعربية والاقليمية وعملها الى أن تحقّق هذا الإنجاز في غاية التعقيد والصعوبة، ورغم ذلك استطاع الشعب اللبناني على اختلاف مشاربه وتوجّهاته وتقييماته للمقاومة أن يتجاوز هذه الظروف ليتحقّق هذا الإنجاز التاريخي، فحريٌ به أن يجد الطريق المناسب للتفاهم على بناء الدولة وتجاوز المعوقات إن أردنا ذلك وتخلّينا عن بناء الجدران التي تُعمّق الخلافات وتُبعد مسافات التقارب والاتفاق، فلبنان وطن نهائي لجميع بنيه وسيبقى لبنان رسالة الإسلام والمسيحية إلى العالم، رسالة للمحبة ومساحة التميّز لا التمايز في هذا العالم المتعب بالصراعات.
أيها اللبنانيون، تعالوا لنُنهي هذه المأساة التي يتقلّب فيها شعب لبنان الطيب والتي لا يستحقها بل يستحق أن يفخر على الامم بقدرات إنسانه التي يعترف له بها العالم، فلنتقي الله فيه بدل لعبة عض الأصابع وهدم ما تبقى، فإما أن ننتصر جميعاً أو نهلك معاً، ولم يعد هناك من وقت فلبنان اليوم على حد السيف.
إنّنا نعرف جميعاً أن بداية الحل لكل المشاكل الاقتصادية والنقدية التي يعاني منها الشعب اللبناني هي بالتوافق السياسي الذي تحول دونه الانانيات، فتخلوا عن أنانياتكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *