خطبة الجمعة للشيخ الخطيب في مقر المجلس

ادى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس والقى خطبة الجمعة التي قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم المرسلين ابي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين الاخوة المؤمنون الاخوات المؤمنات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أُبارك لكم وبالأخص لأمهاتنا واخواتنا وبناتنا المولد المبارك لبضعة رسول الله سيدة نساء العالمين السيدة فاطمة الزهراء (ع) التي أكرم الله تعالى بها رسوله (ص) منزلاً بها قرآناً يتُلى على مسامع الدهر قائلاً جل وعلا: { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} رداً على أعداء الدين والرسالة الذين أرادوا بإطلاق الابتر عليه إسقاطه إجتماعياً وسياسياً، ومحاولة منهم في استغلال العرف السائد لديهم أن زعامة القوم تستمر مع الذكور من الابناء لمنع الناس من اتِباعه، لأن ملكه حسب اعتقادهم مؤقت وليس دائما، وبالتالي فإن دعوته لن يكتب لها البقاء، فكان الرد الالهي على هؤلاء بأن ما اُعطيَ بالزهراء (ع) دائم ومستمر وستكون منها الكثرة من ذريته وان حساباتهم خاطئة، وان الدعوة التي يَدَّعونها من منطلقات متخلفة وجاهلية باقية، وهذه الميزة من الميزات المتعددة التي اختصت بها السيدة الزهراء ذات علاقة بأمر الدعوة والتحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية وبعدها الحضاري العالمي أن يجعل الله تعالى في ذريتها ذرية الرسول (ص)، وأن تكون قيادة المشروع الالهي منها وأن يحبط الله تعالى آمال اعداء الرسالة بهذا الوسام الذي اعطي لها دون غيرها.
ولئن كان رسول الله (ص) وعلي (ع) أبوي هذه الامة، فقد كانت الزهراء أم أبيها، و الى جانبهما تتمتع بهذا المقام الذي لم يكن لأحد غيرها أن تبلغه حتى نساء النبي، فإن أمومتهم للمؤمنين كانت تعظيماً لرسول الله (ص) ورداً على الكافرين الذين أرادوا إيذاءه بقولهم انهم سيتزوجون نساءه بعد وفاته (ص).
هذه الامتيازات للسيدة الزهراء (ع) بيان لعظمة هذه السيدة وما تتمتع به من مناقبية عالية ومعرفة وروحية سامية أراد الله تعالى أن يجعل منها القدوة لنساء العالمين يهتدينَ بها ويتعلّمنَ منها، فكما كان رسول الله (ص) وأمير المؤمنين علي (ع) القدوة والنموذج والمعلم للمؤمنين يتعلّمون منهم ويقتدون بسيرتهم وينهجون نهجهم في الحياة في الالتزام بالأخلاق والقيم وبالعمل الجاد والاستقامة والنشاط وعدم الكسل ومحاربة النفس والاهواء والشيطان، فكذلك أراد ان يضرب للنساء المثل بالزهراء، وأن يقول لهم هذا هو مثلكم الذي إن تمثلتم به وأخذتم عنه وسرتم على نهجه نجوتم ونجحتم، فهو طريق فلاحكم ونجاتكم وفوزكم في الدنيا والآخرة ، حين تكون المرأة إنسان ويكون همّها أن تتدرج في مدارج الكمال الروحي والنفسي والاخلاقي وأن تكون ذات قيمة ورسالة تعمل على تحقيقها في رفع شأن المرأة في الحياة بل صانعة الحياة، وإلا تكون جاهلة ومتأثرة بالعادات الجاهلية وألا تسمح للآخرين باللعب على مشاعرها واتخاذ أنوثتها لعبة لتجار الاهواء والملذات تحت ستار شعار حرية المرأة الذي أُريد به تحرّرها من القيم الاخلاقية ومن الضوابط الانسانية تماماً كما هو شعار الحرية الذي أُستخدم للتحلّل من الضوابط الاخلاقية وتحقيق الفوضى الاجتماعية في عملية استتباع للثقافة الغربية.
ومن الشعارات التي انخدع بها الكثيرون كردة فعل على الاوضاع المزرية التي ارتكبها من لا علاقة لهم بالدين وأُلصقت به، من هذه الشعارات المنادات بالمساواة بين الرجل والمرأة وخلطوا فيها بين القيمة الانسانية والوظيفة العملية كما تحدثنا غير مرة وبيّنا أن الاسلام وبشكل موضوعي فرّق بينهما وأن التميز الوظيفي لا يخلق تميزاً أخلاقياً وان القيمة الانسانية معيارها واحد وهي التقوى كما هو الحال في الانتماء العرقي والجغرافي وغيرها {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .كذلك الوظيفة فإنها لا تصنع اختلافاً في الافضلية الاخلاقية الا بمقدار القيام بهذه الوظيفة.
أيها الاخوة والاخوات، إنّ الفجور الاعلامي وكثرة الصراخ والضجيج جعلت المتخلفين ثقافياً ومعرفياً ينقادون بدون وعي لهذه المقولات التافهة وغير المبنية على أساس معرفي وثقافي صحيح، وإنما هي مقولات قائمة على أُسس عنصرية قلّدوا بها ما يجري في الطبيعة الحيوانية وأرادوا تقليدها في المجتمع البشري دون تمييز، فقلبوا لهم الآية وأخذوا الادنى نموذجاً للاقتداء فكانوا مصداقا لقول الله تعالى {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } يهمهم علفهم واشباع شهواتهم وغرائزهم.
لكن الاسلام أراد أن يرتفع بالبشرية الى مرتبة الانسانية ، يقول أمير المؤمنين (ع): ” فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا “، ولقد أخذهم هذا النهج الى الدعوة لإلغاء التنوع في المخلوقات وعدم الاعتراف به مع كونه حقيقة تكوينية تتكامل بها المخلوقات ودعوا الى المساواة بين الرجال والنساء وعدم التمايز وخلطوا بين المساواة والعدالة في عملية تضليل فكري ومنهجي كانت له نتائج خطيرة على مستقبل المجتمعات الانسانية من تفكّك الاسرة والشذوذ الجنسي والامراض النفسية وغيرها، وجعلوا من المجتمع البشري غابة من الوحوش يفترس بعضهم بعضاً.
أيها الاخوة والاخوات، إنّ مشكلة ما يسمى بالعالم الثالث ومنه العالم الاسلامي والعربي وهي مشكلة بشرية عامة في المقاييس والموازيين التي تستخدمها في تبني خياراتها العملية التي هي ما ذكرناه سابقاً من الخضوع لموازين القوى المادية ، وما يبدو أنه النموذج الذي يجب اتِباعه للوصول الى حالة التحول الحضاري بامتلاك القوة المادية فقط، وهو نهج خاطئ لم يحقّق لها ما كانت تحلم به للخلاص من واقعها المتردي، وان الواقع الدولي الذي تفرض فيه القوى الغربية الاستعمارية سيطرتها على العالم أمر لا يمكن الخلاص منه إلا باتباع نهجه الحضاري، ولكن النتائج كانت مزيداً من الخيبة والاحباط والضعف والهزيمة، وقد حدّد الاسلام للنهوض موازينه الحقة ودعا الى استخدامها بدقة فقال :{وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ *وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}.
إنّ الموازيين لخلق التوازن والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي كالموازين التكوينية التي تحكم استقرار العالم وكل خلل تتعرّض له هذه الموازين سيؤدي الى زعزعة هذا الاستقرار التي تتمثّل في مجموعة القيم الاخلاقية والاجتماعية والسياسية التي جاء بها الرسل والانبياء، وشكّلت إحدى نماذجها العملية السيدة الزهراء (ع) كما شكلها في كل زمان نماذج من النساء، فكانت كل من آسيا زوجة فرعون ومريم ابنة عمران سيدة نساء زمانها يقتدينّ بها تشكّل لهنّ ميزان الحق في اتخاذ القيم الالهية والشريعة الغرّاء منهاج حياة، لقد أسَفّت بعض الدعوات المنافقة أيّما إسفاف في تناول الشريعة الاسلامية اتهاماتها الباطلة بشأن حقوق المرأة ووصل الامر بها الى محاولة فرض اجتهادات باطلة منسوخة دون وعي أو عن وعي وخبث عن شرائع وضعية لا تمت الى الاسلام بصلة في محاولة تحريضية هدّامة تستخدم فيها أوجاع بعض نسائنا لكسب إعلامي وابتزاز مادي او تنفيذاً لسياسات عدوة لخلق فوضى ثقافية وتفسخ داخلي في مجتمعنا، اشتد عند عجز العدو وفشله أمام الصحوة الدينية وتعزيز حضورها لدى الفئة الشابة، فكانت الوسيلة الاعلامية آلة التضليل والتشويه لحركة الوعي الديني ومن يقف وراءها بخلق حركات منحرفة وإسقاط المرجعيات والشخصيات الفكرية الاصيلة باختلاق الاكاذيب والاشاعات وتسويق مرجعيات بديلة لا تملك العلم والمعرفة لضرب هذه الصحوة جنّدت لها الاموال والقنوات الاعلامية متجاوزة كل القوانين والاعراف والاخلاقيات لرسالة الاعلام المتزن.
أيها الاخوة والاخوات، إننا نعلم انها معركة غير متكافئة من ناحية الامكانيات المادية ولكن حبل الكذب قصير{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}، إنّها معركة ليست فكرية ، بل سياسية بخلفيات ثقافية هجينة تُخاض اليوم على مستوى عالمي، سلاحها الدجل والافتراء والكذب لكيّ الوعي الاجتماعي والثقافي لأهداف استعمارية بأشكال قديمة جديدة تتحمل مسؤولية مجابهتها القوى التي تعمل من أجل الاستقلال الحقيقي. ولقد خسرنا بالأمس فيها إحدى قاماتها الكبار دولة الرئيس الحسيني (رحمه الله) الذي ينتمي الى هذه المدرسة و سار هذا الطريق مع رفاق له الى جانب الامام السيد موسى الصدر في أخطر مراحل حركته الاصلاحية لبناء دولة المساواة والعدالة دولة المؤسسات القائمة على الوحدة الوطنية التي تشكل إحدى أهم ركائزها وقوتها لمواجهة الخطر الوجودي للعدو الاسرائيلي ولمشاريعه التقسيمية التي يغري بها بعض الفئات الداخلية.
وجدير باللبنانيين الذين يُعَاقبون على كسر إرادة العدو الصهيوني أن يستفيدوا من هذا الانجاز ليجعلوه مدخلا للحلول السياسية والخروج من دولة المحاصصات ودولة المزرعة المسخ التي حوّلت اللبنانيين الى لاجئين في وطنهم فضلاً عن الخارج، وبات وجود لبنان مهدداً بتوطين النازحين السوريين الذين يُمنعون من العودة الى بلدهم ويلهوننا باجتماعات برلمانية باتت مهزلة فيما يُعطّل الحل برفض الحوار الداخلي فيما الازمات الاجتماعية والمعيشية تزداد على كل الصعد، إنها صورة النظام في لبنان المحكوم بشريعة الغاب الذي لا مكان فيه للقيم الأخلاقية والقانونية.