خطبة الجمعة للشيخ الخطيب

ادى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس والقى خطبة الجمعة التي قال فيها:بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله الطيبين الطاهرين وعلى جميع الانبياء والمرسلين والشهداء والصالحين
والسلام عليكم ايها الاخوة المؤمنون والاخوات المؤمنات ورحمة الله وبركاته
قال تعالى في كتابه العزيز ( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) صدق الله العلي العظيم
هذه الآيات المباركة افتتح الله تعالى بها سورة البلد وهي من السور المكية التي عنيت غالباً بالجانب العقائدي والتوجيهي والوعظي التي تعتمد التنبيه على المسلمات من الامور والمعارف البديهية التي لا تحتاج للبرهان لتنطلق منها كقاعدة للوصول الى النتيجة المقصودة من الايمان بالله تعالى واليوم الآخر، لكن الذي يهمنا اليوم من هذه السورة سورة البلد قوله تعالى (لقد خلقنا الانسان في كبد ) والكبد هو التعب الشديد والمشقة البالغة ، فهو في مكابدة دائمة للبقاء على قيد الحياة وفي تأمين معاشه ومواجهة الاحوال المتقلبة من حين نشأته الى حين موته ، فهي لا تدوم على حال من الصحة والمرض والفقر والغنى والامن وعدمه، وهو في كل ذلك يكابد ويشقى للبقاء.
وادراك هذا المعنى، وهو ان الحياة متلازمة مع المعاناة والمكابدة لا يحتاج الى برهان ولا تختص هذه المعرفة باعتقاد معين، فالناس على اختلاف اعتقاداتهم واهوائهم مدركون لهذه الحقيقة وان نفس البقاء على قيد الحياة فضلا ًعن متطلباتها والتدرج في مراتبها لا يمكن حصوله من دون معاناة . واذا كان معرفة هذا امراً بديهياً فما الحاجة ان يتعمد تعالى ذكرَه في هذه الاية بل ان يلجأ جلّ ذكره الى القسم، وانما يحتاج الى الذكر فضلا عن القسم مع الجهالة والنكران.
اذاً، لا بد ان يكون لأمر آخر وهو انه اذا كانت الحياة مقرونة بالمشقة والشدة والمصائب والنتائج الدنيوية لا تكون دائما إيجابية، بل تنتهي دائما بنهاية حتمية بالموت وحيث لا تخلّف فيها فهي سنّة عامة لا يمكن تفسيرها الا ان تكون بإرادة هادفة، وهي الدعوة الى تحويل هذه المكابدة والمعاناة الى راحة دائمة ابدية حين نحولها الى عمل ايجابي وبناء، وهو ما نعبّر عنه بعمل الخير نعبُر به الحياةَ الدنيا من المكابدة والشعور بالألم والتعاسة واليأس الى الحياة الاخرى التي تكون ثمرةً لهذا الجهد الدنيوي الذي يجعل الانسان يشعر بالرضا النفسي والروحي وهو يتألم جسديا وبالأمل وهو يرى النهاية الماثلة امامه مع اقتراب اجله ودنو موته، بل قمة الشعور بالنجاح وقد بذل اقصى جهده وان لم يصل الى مقصده الدنيوي.
أيها الاخوة والاخوات، هي دعوة من الله تعالى للإنسان ليفقه الحياة وان كل نجاح فيها ما لم يكن القصد فيه رضى الله والتزام اوامره فهو خسران، ولأن كل شيء كَبُر او صغر فهو في معرض الزوال الا ان يكون لله تعالى فهو باق، وهو بهذا المعنى ليس امراً بيناً وواضحاً فاحتاج الى الذكر والقسم من العزة الالهية لتوجيه الناس الى ما ينفعهم ويجعل من المعاناة والمكابدة لمشقة الحياة وآلامها التي لا يمكن تفاديها والهروب منها معنى ايجابياً هادفاً يدفع بالإنسان الى العطاء بلا حدود ويعطي الحياة معنى خلاقاً وهادفاً يبعث الامل بدلاً عن اليأس، والحب بدلاً عن الكره ، والجمال بدلاً عن القبح، والراحة بدلاً عن التعب، والامان بدلاً عن الخوف من الآتي بعد الموت ، وهذا هو معنى الحياة، وإلا فالحياة بدون ذلك هي الموت بعينه، بل ابشع من الشعور بالموت نفسه، وهو ما يعبّر عنه امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (ع )في وصفه المتقين ( فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون ).
وهو المعنى الذي تتفق عليه الاديان في مبادئها الاساسية على اختلافها التي حولتها الانانيات البشرية الى مجموعات من العصبيات العشائرية المتصارعة واستغلتها لتحقيق مطامع حقيرة وضيقة حولت الحياة الى جحيم سلبت منها الامن والاستقرار وحولتها ساحة صراع وحشي لمطامع حيوانية لا حدود لها.
تُرى ما هو الواقع الذي يعيشه الشعب اللبناني وما هي مسؤولية التنوع الديني عن ذلك ؟
أيها الاخوة والاخوات، ان الشعب اللبناني شعب مؤمن بالمعنى العام للإيمان ينتمي بمجموعه الى الديانتين الالهيتين الكبيرتين الاسلامية والمسيحية، ولذلك فإنه ينتمي الى هذا الفكر الجامع والقواعد الايمانية المشتركة، وقاعدته احترام الانسان والدعوة الى عبادة الله الواحد وتحقيق العدالة الاجتماعية والتمسك بالقيم والاخلاق والحفاظ على قيم الاسرة والعائلة واحترام التنوع ورفض الظلم والعدوان والتمييز على اساس العرق واللون والدين والطائفة، ولذلك فان ما يحصل اليوم في لبنان من خلافات سياسية تُعطى صبغة الدين والطائفة وتربط الاصلاحات السياسية للنظام بإلغاء الاحوال الشخصية وما تقوم به بعض المجموعات التي تعلن عداءها للدين وقيمه وانتمائها للغرب وثقافته، وهو اخطر اشكال الحروب التي يخوضها في مواجهة العرب والمسلمين. ان كل ذلك مخالف لكل هذه القيم ولما ورد في المادتين التاسعة والعاشرة من الدستور اللبناني ، ولذلك فاننا ندعو اولا الى الجلوس على الطاولة والبدء بالحوار بين القوى السياسية في كيفية تطبيق بنود اتفاق الطائف ومن جملتها البنود الاصلاحية من تأليف اللجنة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية وتشريع قانون انتخابي خارج القيد الطائفي وانشاء مجلس شيوخ ، يتوج بالاتفاق على انتخاب رئيس للجمهورية وتأليف حكومة جامعة تملك برنامجاً اقتصادياً ونقدياً قادراً على
اخراج لبنان من ازماته المستعصية وايجاد الحلول للازمة الاجتماعية، وهو امرٌ حله بيد اللبنانيين وليسوا بحاجة الى انتظار الخارج ، وبذلك يعبّرون حقيقة عن السيادة والاستقلال. اما الاستمرار على النحو الذي نراه من تكرار جلسات المجلس النيابي العقيمة و الخطاب السياسي الذي اصبح ممجوجاً فهو يعبّر عن عدم مسؤولية واستهتارٍ بالمصالح الوطنية وخيانةٍ للشعب اللبناني خصوصاً اذا كان يعبّر عن مراهنات بانتظار تحولات على الساحة الدولية والاقليمية فقد اثبتت التجارب السابقة فشلها اولا وثانيا أن من يؤمن بالاستقلال والسيادة ينبغي ان يراهن على الوحدة الوطنية والتوافق الوطني الذي هو اقوى من اي رهان كما سبق وراهن الشعب اللبناني على ارادته والتفافه حول جيشه ومقاومته فحرر الارض ودحر العدوان الاسرائيلي وردَعَه عن الاعتداء وحرر ثروته البحرية وما زال يقف له بالمرصاد. وكل ادعاء بالحرص على الاستقلال والسيادة لا يكون حريصاً على التمسك بأوراق القوة التي تحمي لبنان وتضمن سلامة ارضه وشعبه وثرواته ، فهو ادعاءٌ لا يبلغ التراقي.
أيها الاخوة، ان الانقسام السياسي العامودي المزمن كان قائماً حول جملة من القضايا الاساسية والاستراتيجية التي لم تحسم منذ انشاء هذا الكيان وبقيت مثاراً للجدل الدائم، هيأت الارضية المناسبة للتدخلات الاجنبية واستخدام لبنان بوابة لتحقيق اغراضها السياسية والاقتصادية والعسكرية في المنطقة العربية والاسلامية وتسببت بعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والامني ليس على الساحة الداخلية فحسب، وانما على صعيد المنطقة انتجت في كثير من الاحيان حروباً اهلية وكوارث اجتماعية واقتصادية، وبالتالي افرغت ما يسمى بالاستقلال الوطني من مضمونه. واذا كان اتفاق الطائف جاء ليحسم بعض الامور التي كانت مثار جدل بين القوى السياسية لكن استمرار التعطيل والمناكفة وعدم تطبيق هذا الاتفاق وعدم الاستجابة لدعوات الحوار والتوافق يثير اكثر من سؤالٍ حول وجود اهداف مبيتة حمانا الله من الشرير آمين، كما نكرر الدعوة للمنظمات الدولية الى العمل الجاد لإعادة الاخوة السوريين الى بلدهم مع انتفاء الأسباب التي أدت الى نزوجهم.
أيها الاخوة، ولا يسعنا في هذا اليوم ونحن نشهد العمليات البطولية والمتصاعدة التي يقوم بها ابناء الشعب الفلسطيني خصوصا في انحاء الضفة والقدس الا ان نشدَّ على ايدي المجاهدين وان نتقدم منهم بالتبريك بالشهداء الذين تعتز الامة بهم على امل تحقيق النصر القريب بتحرير القدس وكل فلسطين وعودة الشعب الفلسطيني الى ارضه ودياره.
كما نتوجه بالإدانة للاعتداءات العدو المتكررة على الشقيقة سوريا ونتقدم من قيادتها وجيشها وشعبها بالتعزية بالشهداء، كما ندين عمليات التخريب والارهاب التي تنفذ ضد الجمهورية الاسلامية الإيرانية وشعبها المضحي ونتقدم من قيادتها وعلى راسها سماحة المرشد الاعلى السيد الخامنه ئي حفظه الله ومن الشعب الايراني العزيز باحر التعازي، ونسأل الله تعالى للشهداء الرحمة وللجرحى الشفاء العاجل، حيث تدفع هذه الدول فاتورة وفائها لقضاياها العادلة والحقة وعلى رأسها الحفاظ على استقلالها والتزامها قضية الامة المركزية قضية تحرير القدس والدفاع عن فلسطين و شعبها الابي.
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ)
(وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه)