خطبة الجمعة للشيخ الخطيب

خطبة الجمعة للشيخ الخطيب

ادى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس والقى خطبة الجمعة التي قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين.

يقول الحقّ تعالى في كتابه العزيز (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) والتعدي للحدود هو التجاوز لها وعدم الالتزام بها والحدود عبارة عن الاحكام التي تحدد ما يجوز ارتكابه وما لا يجوز، وهي مجموعة التشريعات التي تناولت جوانب الحياة الإنسانية واهتمت بتنظيم شؤون حياة الانسان الفردية والاجتماعية، فما من واقعة إلا ولها حكم حتى الأرش في الخدش كما ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) وهو لازم طبيعي لأنه لا يمكن إقامة أمة لها مهمة ووظيفة في الحياة فقط على أساس عقائدي من دون وجود شريعة تنظّم العلاقات الداخلية بين أفرادها وجماعاتها الداخلية من ناحية وبينها وبين الأمم الأخرى من ناحية ثانية، وخصوصاً وان رسالة الإسلام هي الخاتمة إذ لا رسالة بعدها.

أيها الاخوة، ان لهذه العلاقات جوانب متعددة تتكامل فيما بينها لتؤدي هدفاً واحداً في الحياة يقوم على أساس العبودية لله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، وهو الاستقرار الاجتماعي والتكامل الإنساني والأخلاقي والقيم المعنوية في السير نحو الله سبحانه وتعالى وتحقيق العدالة الاجتماعية ومواجهة الطاغوت وتحصين الفرد والمجتمع من الانحراف والفساد الأخلاقي ومكافحة الجهل والخرافة والمرض ونشر العلم والمعرفة وتوفير الحياة الآمنة والكريمة للإنسان وتمكينه من الاستمتاع بالخيرات التي أودعها الله تعالى في هذا الكون.

ففي العلاقات الاجتماعية اهتمّ الإسلام بدعم هذه الروابط عبر خلق المحفّزات الذاتية للإنسان والتربية الأخلاقية والدينية المنسجمة مع الفطرة الإنسانية (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)، فالإنسان مفطور على حبّ الخير واستحسانه وكره الشرّ ونكرانه، ولكن حيث أن العوامل الدافعة نحو الانحراف وارتكاب الشر كامنة أيضاً في النفس الإنسانية وهي قوية وجامحة احتاج الانسان لمواجهتها الى ما يعزّز الفطرة ويجعلها قادرة على مجابهة عوامل الانحراف، فقد توسل الإسلام أولاً عبر العامل التربوي بتعميق الوعي العقائدي والثقافي بالارتباط الله سبحانه وتعالى واستحضاره الدائم في كل تفاصيل حياته، الى جانب ثقافة الثواب والعقاب مما يعزّز الى جانب المعرفة جانب الردع الذاتي لديه، وقد مارس القرآن الكريم هذا الأسلوب من التشويق لفعل الخير ووعد الذين يعملون الصالحات أجراً عظيماً والذين يعملون السيئات عذابا أليماً، ولم يقتصر على ذلك بل عمد الى بيان عاقبة الصلاح والفساد في الدنيا أيضاً، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (ذلك بأنّ الله لم يكن مغيّراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وقال أمير المؤمنين (ع): “ما زالت نعمة ولا نضارة عيش إلا بذنوب اجترحوا، إن الله ليس بظلام للعبيد ولو أنهم استقبلوا ذلك بالدعاء والانابة لم تزل”، وقال تعالى (لئن شكرتم لأزيدنكم)، وقد ورد أن النبي سليمان (ع)خرج ليستسقي فرأى نملة قد استلقت على ظهرها وهي تقول: “اللهم إنا خلق من خلقك لا غنى لنا عن رزقك فلا تهلكنا بذنوب بني آدم” فقال سليمان (ع): “ارجعوا فقد سقيتم بغيركم” هذا الأسلوب الأول لمواجهة الانحراف، والأسلوب الثاني عبر الردع القانوني وضع لذلك نظاماً خاصاً للعقوبات، قال تعالى : (ولكم في القصاص حياة يا أولي الالباب)، ولكن الأسلوب الأول الذي اعتمده الإسلام في مواجهة الانحراف ولضمان الالتزام بالشريعة والقانون هو الأساس وأسلوب الردع كان أمراً ثانوياً، وكان التركيز في الأسلوب الأول تارة على عناوين عامة كالإيمان، قال تعالى (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)، (وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا)، والشرك قال تعالى (وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا) (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، والتقوى (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ) (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ) (وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا {الطلاق/2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون) وعنوان العدل (كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، وقد بلغ التأكيد على أهمية العدل حتى اشتُرطت العدالة في من يتولى الحكومة والقضاء والشهادة وإمامة الجماعة، وحرمة الظلم (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تحدثت عن الظلم كما حثّت السيرة الشريفة على الكثير من الروايات التي تشدد على حرمة الظلم والعدوان، (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء)، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً)، (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا)، القتل من دون حقّ (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) وغيرها من العناوين العامة كما ورد التركيز في بعض الآيات على بعض التفاصيل في موارد أخرى.

يا الاخوة الأعزاء، إنّ ما نراه من تفلّت أخلاقي وانحراف في السلوك الاجتماعي ناتج عن خلل تربوي وثقافي يحتاج الى معالجة تتحمّل مسؤوليته بالدرجة الاولى المؤسسات الدينية والتربوية والثقافية، وهو يحتاج من هذه المؤسسات الى عمل جادٍ وتخطيط ومتابعة وتنسيق بينها وهو يحتاج أولاً من الجهات المسؤولة والواعية التي تُعنى بهذا الجانب المهم لمواجهة الانحرافات الاجتماعية والجريمة التي تتسع يوماً فيوم وتخلّ بأمن المجتمع أن تتحسّس هذا الجانب وتقوم بدعم هذا التوجه.

إنّ المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى إذ يحذر من خطورة هذا الموضوع يدعو الى مساندته على كل الصعد ليتمكّن من القيام بهذه المهمة إضافة الى واجباته الأخرى في دعم الاسر المحتاجة التي تئن تحت وطأة الحاجة وهو على أمل كبير أن تلاقي هذه الدعوة الاستجابة اللازمة لها لتلافي الاخطار الكبرى التي تهدد مجتمعنا العزيز.

إنّ الازمات المتفاقمة التي يعاني منها اللبنانيون وصلت الى حد كبير يصعب تحمل تداعياته الاجتماعية التي تهدد الاسر في علاقات افرادها، وهو يحتاج الى هبة إنقاذيه على مختلف الصعد والمستويات بدءاً من مكافحة الاحتكار والتضخم وصولاً الى توفير مقومات العيش الكريم الذي يفتقده غالبية اللبنانيين مع بدء العام الدراسي وقرب حلول فصل الشتاء، فالمعالجات تستدعي تحمل الدولة لمسؤولياتها في التخفيف عن مواطنيها الذين ضاقت بهم السبل فراحوا يبحثون عن فرص عمل في الهجرة المحفوفة بالمخاطر والنكبات التي شهدنا فصلا منها الأسبوع الماضي، نأمل ان لا تتكرر هذه الفاجعة.

ونطالب السياسيين ان يبادروا الى تشكيل حكومة تتصدى للانهيار الاقتصادي والتردي المعيشي، ولاسيما ان المجلس النيابي اقر الموازنة العامة للدولة التي نرى فيها منطلقاً لتصحيح الوضع المالي وعودة لانتظام العمل المؤسساتي الذي يحتاج الى انجاز الاستحقاق الرئاسي بروح توافقية يجسد من خلالها السياسيون تعاونهم وتشاورهم لانتخاب رئيس يحظى بتوافق الجميع، كنا نأمل إنجازه في جلسة المجلس النيابي التي انعقدت لهذه الغاية، ونتمنى ألا يتأخر هذا التوافق للحؤول دون حصول الفراغ القاتل.

ونحن إذ نرى في اعلان بدء العام الدراسي الجديد بارقة امل بعودة الطلاب الى مقاعدهم الدراسية فإننا نطالب بتعزيز القطاع التربوي وتوفير الحد الأدنى المطلوب لنجاح العملية التربوية ومكافحة التسرب المدرسي ورفع المستوى الأكاديمي، على ان وضع الجامعة اللبنانية يستحق المزيد من الاهتمام والدعم لأنها تشكل المؤسسة الجامعية التي رفدت لبنان والعالم العربي بالطاقات والنخب واسهمت في النهوض الوطني وعلى خريجيها تبنى امال المستقبل. ونرى في المساعدات المالية التي اقرتها الموازنة خطوة ناقصة ما لم تستكمل بتعديل سلسلة الرتب والرواتب للعاملين في القطاع والخاص بما يحقق الحد الأدنى من العيش الكريم، ويمنع من هجرة الادمغة والكفاءات التي يحتاجها لبنان في مسيرة النهوض والتعافي.

إننا ندعو الى حل أزمة البحرين بما يؤدي الى رفع المظالم عن الشعب البحريني ويعيد الامن والاستقرار الى ربوع هذا البلد العزيز ونطالب بإطلاق سراح العلامة الفاضل الشيخ عبد الجليل المقداد وإخوانه المعتقلين من سجناء الرأي الذين عبّروا عن مطالبهم بطرق سلمية، وندعو الى إطلاق حوار وطني بين الحكومة والمعارضة بما يفضي الى حل وطني يخرج البحرين من هذا الواقع المرير.

أيها الاخوة والاخوات، إنّ الكيان الغاصب لا يزال مصدر الازمات والنكبات في منطقتنا، ولا يزال الشعب الفلسطيني في موقع الصمود والتصدي لغطرسة العدو الذي ندين انتهاكاته المتكررة بتدنيسه لحرمة المسجد الأقصى ومحاولة فرض أمر واقع، ونطالب المنظمات الدولية بإدانة هذه الانتهاكات التي تثبت عنصريته ووحشيته وعدم التزامه بالقوانين والشرائع الدولية.

ونحن إذ نحيي هذا الشعب البطل على انتفاضاته المتجددة التي تبعث على التفاؤل بان فلسطين لن تضيع، طالما ان شعبها متمسك بحقوقه المشروعة في تحرير ارضه وحماية مقدساته من رجس الاحتلال بما يبذله من دماء وشهداء على هذا الطريق، ومقتضى الوفاء لقضية فلسطين أن لا يتخلى عنها أبناؤها العرب والمسلمون ويقفوا بوجه التطبيع ويقوموا بواجبهم في نصرة الشعب الفلسطيني ودعمه بكل الوسائل والامكانيات لينال هذا الشعب حقوقه المشروعة في دولة مستقلة عاصمتها القدس الشريف بعد عودة اللاجئين الى ديارهم في فلسطين.