خطبة الجمعة للشيخ الخطيب
ادى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس والقى خطبة الجمعة التي قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين وصلّى الله على سيدنا رسول الله محمد ابن عبد الله وعلى آله الطاهرين ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين.أيها الاخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قال تعالى في كتله المجيد: (أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوٓاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعْجِزَهُۥ مِن شَىْءٍ فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِى ٱلْأَرْضِ إِنَّهُۥ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا).
لقد ورد في الكتاب العزيز أربعة عشر آية في سور متفرّقة تستنكر على الأمم عدم التعاطي مع تاريخ الامم السابقة بإمعان وتدبّر ودراسة واتعاظ، فهي إما تعاملت معه على انه مجرد تاريخ مضى وانقضى لا صلة ولا تأثير له بالحاضر و المستقبل، فهي تتلوه على سبيل الثقافة العامة والاطلاع لمعرفة ما حدث في ماضي الأمم أو على سبيل التسلية لتعبئة الفراغ، كما هو حال هواة القصص أو لإظهار ما لديها من ماضٍ عريق في التاريخ تفتخر به بين الأمم، وتعدُّ ذلك ثروة من ثرواتها وكنزاً من كنوزها تودعها المتاحف لتستهوي السياح والزائرين، فهي مجرد وسيلة لإقتناص المال تُثّمر به خزائنها أو تسدّ به حاجاتها أو على سبيل الاستفادة من تاريخ الأمم السابقة والسياسات التي اتبعت معها والحيل التي عولجت بها مشاكلها من قبل الساسة ودهاة الحكم للتعلم منها وتطبيقها للسيطرة على رعاياها والتمويه لمعالجة النقمة الشعبيىة عليها. وفي جميع هذه الحالات كان التعامل مع هذا الزمن الغابر ومع التاريخ تعاملاً سلبياً وتعاملاً مع التراث الذي تعتبره تعاملاً مع ميت وأسوأ هذه الحالات من التعاطي هو الاخير، تعاطي الساسة الذين يأخذون تجارب الماضي في هذا الجزء المظلم من تاريخ الأمم ليطوروه وليتعاطوا به مع الحاضر والمستقبل من منظور إبقاء السيطرة والاحتيال على المطالب الشعبية التي تطالب بتطوير حياتها وتلبية احتياجاتها المتطورة مع الزمن والتي تتطلب تطويراً في الاداء والامكانيات التي لا يتسع لها أفق الحاكم والمسيطر، ولذلك كان هذا التعاطي مع تاريخ الأمم السابقة موضع انتقاد من القرآن الكريم والفات للنظر الى وجوب التعاطي مع التاريخ بنحو مختلف لما فيه تجارب الامم الماضية من عبر تشكّل ثروة حضارية وغنى هائلاً ضرورياً لأي أمة من الامم بل للإنسانية من اجل بناء الحاضر والمستقبل وتتفادى فيه السلبيات وتستفيد فيها من الإيجابيات.
فقد مرت هذه الامم بتجارب ناجحة في بعض الجوانب واخرى فاشلة في جوانب اخرى أدت الى انهيارها ودمارها، ولذلك كانت هذه المسألة من الاهمية بمكان أن حث الله سبحانه وتعالى انبياءه ورسله والمتنورين ممن أعملوا عقولهم على ضرورة التنبّه للتعاطي مع تجارب الأمم السابقة بهذه الخلفية الرسالية، خلفية دراسة الاسباب التي أودت الى هلاكها ودمارها والاتعاظ منها في بناء المستقبل على ضوء هذه العبر، وقد أثبتت الدراسات للآثار وما خلّفته الأمم السابقة ما جاء في القرآن الكريم من وجود حضارات مادية قديمة متطورة، ما زالت آثارها باقية الى اليوم، كالآثار الفرعونية واليونانية والبيزنطية وغيرها من الآثار التي تدل على أهمية التطور المادي والعلمي الذي بلغته هذه الأمم ولكنها أغفلت النظر في أسباب سقطوها ودمارها. قال تعالى( او لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا اشد منهم قوة واثاروا الأرض وعمروها اكثر مما عمروها)
أيها الاخوة والاخوات، إنّ الحضارة المادية التي طغت وشملت عالمنا اليوم اقتفت نفس الأثر الذي سارت عليه الأمم السابقة وهو اعتماد التطور المادي لامتلاك عنصر القوة المادية الذي اعتبرته الأساس للديمومة والبقاء، ومن الطبيعي أن تنتهي الى نفس المصير الذي انتهت اليه تجارب الامم السابقة وهو الصعود والقفز بشكل سريع وهائل في تطور الحياة المادية ثم السقوط بنفس السرعة أو أكثر الى الهاوية والنهاية المؤسفة ، فهؤلاء لا يحسبون أنهم بما امتلكوه من تطور مادي أنهم امتلكوا القوة التي تعصمهم من مهلكات الدهر، فإنّ من كان قبلهم كانوا أشد قوة، ولكن هذه القوة لم تكن القوة التي تحسم المصير وتعطيهم قوة البقاء، ولو كانت كذلك لما آل مصيرهم النهاية البائسة من الدمار والبوار والخراب، اذاً فما هو سبب هذا التداعي لهذه الحضارات ولهذه الأمم؟ وما هو الخلل الذي اعتراها وأوصلها الى هذه النهاية البائسة؟
إنّ الدفع نحو هذا التساؤل والتفتيش عن هذا الخلل في قراءة التاريخ هو ما يريده القرآن الكريم، لا قراءة التاريخ قراءة القصاصين وقراءة التسلية ولا لمجرد الاطلاع والثقافة المجردة عن التأثير ولا باعتباره يمثّل مجداً تاريخياً للأمم أو ثروة تجلب الزائرين والسياح لتحصيل المال ولتوفير حياة الترف كما تصنع دولنا اليوم، حيث نهيئ للسياح الذين يأتون للتسلية والترفيه والمتعة كل أسباب ذلك لهم، وتتحول السياحة الى باب من أبواب الفساد الأخلاقي لأن همّ الدول هذه هو توفير المال الذي تحتاجه أو يحتاجه في الواقع طبقة فاسدة تستثمر مقومات الدولة ومعالمها السياحية لتزيد من ثرواتها، على أن ما يصل الى الناس الآخرين هو الفتات، وتنتشر بينهم الرذيلة والفساد والعلاقات اللاشرعية واللاأخلاقية، فيما أن الجانب الايجابي من السياحة يُعطل ولا يُستفاد منه وهو السياحة للاعتبار والنظر والتفكّر في الاسباب التي أدت الى تداعي هذه الحضارات ذات القوة المادية الهائلة التي أبقت على آثارها رغم مرور السنين وأدت الى سقوط أهلها وبناتها الذين حينما تمتعوا بمهارات مادية فائقة وهو أهم سؤال على الاطلاق لأنه يتعلق ببقاء الحضارات وديمومتها أو بسقوطها وهلاك أهلها حيث لن يبق منها الا الأطلال.
لقد تنبّه بعض المفكّرين الغربيين الى هذا الخلل واعتقدوا أن بالإمكان سدّ هذا الخلل عن طريق تطوير برامج التربية والاهتمام بالقانون، وأن ذلك يمكن أن يعيد للبناء الحضاري المادي توازنه ولكن ذلك بعد التجارب لم يفِ بالغرض على أهمية ما أُنجز على صعيد بناء الإنسان ولم يُعِد للمجتمعات المتقدمة استقرارها الداخلي فضلاً عن أنه لم يكبح جماح الشعور للقوى العالمية بالقوة للاندفاع نحو الاخلال بالتوازن الدولي، فغدا العالم اليوم عبارة عن قنبلة موقوتة يودي انفجارها بالعالم الذي يُنذر بحرب عالمية جديدة لا تُبقِ ولا تذر بما أنتجته هذه القوى من أسلحة فتاكة يكفي بعضها للقضاء على الكرة الأرضية ومن عليها، والذي بدت نُذُرها تظهر بالصراع المخيف في أوكرانيا عنوانه روسيا وأوكرانيا وحقيقته روسيا والصين من جهة والغرب من جهة أخرى في حرب عالمية ثالثة بعد حربين عالميتين في القرن الماضي.
إذاً، فما هو عنصر الخلل الذي يدفع بالعالم على الرغم من التقدم المادي الهائل سواء في عالم الاتصالات أو التواصل الذي بدا العالم فيه قرية صغيرة بحيث يصبح مصيره واحداً في السلم وفي الحرب، وما هي الوسيلة التي تنقذ العالم من هذا الشر الماثل أمامنا والدمار الشامل؟ الجواب في كلام سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) الذي يسير في نفس الاتجاه القرآني في هذا المجال يقول عليه السلام بهذا الصدد مخاطباً إبنه الحسن في وصيةٍ له عند انصرافه من صفين وكأنه يبيّن خطورة ما يسير فيه معاوية على الأمة الذي سيوقعها فيما أوقع فيه الطغاة من الأمم السالفة، وأن هؤلاء لو اتعظوا بالقرآن وكلام الله تعالى لما انحطت لهم الأقدار إلى هذا المنحدر وأنه سار بالطريق الذي سارت به أمةٌ لنجت فبماذا يوصي أمير المؤمنين ولده الحسن عليهما السلام قال “أي بني إني وأن لم أكن عُمّرُت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم وفكرت في أخبارهم وسرت في أثارهم حتى عدت كأحدهم بل كأني بما انتهى إليَّ من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم فعرفت صفو ذلك من كدره” وكأنه يقول عليه السلام إن بإمكانك أن تكون مثلي وأن تصل إلى ما وصلت إليه لو سلكت سبيلي في ذلك، ثم يتبع ذلك بقوله عليه السلام له “أحيي قلبك بالموعظة وأعرض عليه أخبار الماضيين وذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأوليين وسر في ديارهم وآثارهم وانظر فيما فعلوا وعما انتقلوا وأين حلوا ونزلوا فإنك تجدهم انتقلوا عن الأحبة وحلوا دار الغربة وكأنك عن قريبٌ قد صرت كأحدهم”.
إذاً ، لا يمكن التعامل مع الإنسان وحركته التاريخية كالتعامل مع الجمادات والحيوانات التي لا اختيار لها ولا مشاعر ويجري عليها التاريخ دون أن تصنعه وإنما تَعامُل القدرِ والضرورة.أما الإنسان فهو من يصنع التاريخ والأحداث حيث يمتلك القدرة على التفكير والتحليل والربط بين الأحداث واستخلاص العبر والنتائج كما يمتلك المشاعر والعواطف التي تؤثر على حركته وتشترك في نتائج الحدث الذي يصنعه، فالخلل يتحدد هنا في هذا الموضع وهو التعامل مع الإنسان كما يتعامل مع الجمادات والحيوانات وتجاوز هذا الخلل في التوازن الإنساني هو بإضافة العنصر الإنساني والمعنوي إلى العنصر المادي، هذا العنصر المعنوي هو عنصر القيم الأخلاقية، وإذا كان لاكتشاف العلماء في العصور المتأخرة للعلم التربوي التأثير المهم في الحياة الإنسانية فلماذا يكون العنصر الأخلاقي والقيم المعنوية من المثل التي لا تأثير لها في الحياة ، بل ليؤكد هذا الجانب وأن اعتماد التربية الأخلاقية والمعنوية أمرٌ له أثره الواقعي في إعادة التوازن إلى العلاقات الإنسانية والدولية وإعادة الاستقرار المفقود والدفء اللازم للحياة الإنسانية التي تعيش حالة الجمود إلى حافة الموت.
أيها الاخوة الأعزاء، إذا كان للغرب ظروفه الموضوعية التي أدت به إلى هذا القعر ، فان ما لدينا من ذخيرة مدفونة في قعر نفوس مجتمعاتنا في غالبها وظاهره في قليلها ما زالت تحكم الكثير من تصرفاتنا يجعلنا ذلك غير معذورين أمام الله تعالى والتاريخ في أن نسلك سبيل الهلاك وأن نقرن مصير مجتمعاتنا بمصير هذا الغرب التافه وإن بدا في أعين الكثيرين على أنه حضارة عظيمة.
إن أربعين إلامام الحسين (ع) التي تحييها الجموع المليونية اليوم في كربلاء بهذه الظاهرة الحاشدة التي لا مثيل لها إنما هو إحياءٌ لهذه القيم ولهذه المعاني وبهذا التفاني وبهذا العشق وبهذا البذل وبهذا الحب، ولذا كانت ثورة الإمام الحسين (ع) ثورة القيم من أجل الإنسان وسعادته وإستقراره في وجه الظالم وإستبداده والجهل وظلامه القاتل للإنسان والإنسانية والعالم. فالحسين هو المشعل الذي يبقى على الدوام يضيء للإنسانية درب الهداية والسلام حتى يمسك به حجة الله تعالى القائم المهدي (عج) والأمل الذي يُمسك بحبله المؤمنون والمستضعفون.
حيا الله زوار الإمام الحسين (ع) وحيا الله شعب العراق الأبي الذي دفع على الدوام الضريبة الكبرى لإحياء هذه الشعائر وهو يستقبل ضيوف الحسين على الدوام بكل هذا الشموخ والاعتزاز الذي يستحق من مسؤوليه ومن قواه السياسية أن يكونوا بمستواه من تحقيق الاستقرار وأن يكون العراق كما نتمناه بلداً آمناً مستقراً ومصدر قوةٍ ظهيراً لأمته التي هي اليوم بأشد الحاجة إليه في هذا الظرف المصيري وتتطلع إليه بأمل كبير، ونكرر اليوم شكرنا لما قدمه العراق وشعبه من مساعدات للشعب اللبناني في هذا الظرف الصعب حيث يفتقد بعض قيادات الشعب اللبناني السياسية الأخلاقية اللازمة التي أوقعته في هذا المأزق ولو كانت هذه القيادات تملك بعضاً من هذا الإحساس بالمسؤولية لما بقيت حبيسة مصالحها الخاصة تُرهن من أجلها مصير شعب ووطن، فلا تتوافق على حكومة وتعدنا بترك البلد للفراغ و بالمزيد من الأزمات ولا تشبع إحتكاراً وسمسرة ونهباً وخراباً و تهددنا بمزيد من إنهيار الليرة ومزيداً من إرتفاع الدولار وبالجوع والبرد القادم في الشتاء و وبقاء ابنائنا عاجزين عن الدخول الى صفوقهم المدرسة وجامعاتهم، حيث لا يتمكن المواطن من الحصول على المحروقات ويعجز عن دفع الأقساط والذي سيؤدي حتماً إلى مزيد من غلاء الأسعار. وفي جلسات المجلس النيابي يعترض المعترضون وهذا مطلوب ولكن المطلوب مع الإعتراض تقديم الحلول، ولا حلول، فهل مطلوب تيئيس الشعب اللبناني ودفعه نحو الفوضى والإنتحار، ثم يهولون علينا بأن جيش يزيد العرمرم قادم من حدود فلسطين المحتلة ليتخلى لبنان عن حقه بثرواته البحرية أو يساوم عليها، لا أيها السادة فلسنا نترك الأوطان ولن يرعبنا نعيق الغربان، فلبنان، كل لبنان، وكل شعب لبنان سينتزع حقه بكامل ثروته البحرية وسيحصل لبنان على ذلك رغم كل الولولات، سيحصل لبنان على ذلك بوحدة الموقف المستند إلى قوة الحق بقوة جيشه ومقاومته يحتضنهما شعب يأبى الضيم والخضوع.
نأمل ان يتحقق سريعاً الوعد بتأليف الحكومة الذي اطلقه الرئيس المكلف من القصر الجمهوري مؤخراَ، وندعو الى التشبث بحق لبنان في مياهه وثروته البحرية وعدم الخضوع للابتزاز الاسرائيلي والتهديد بأخذ إجراءات عقابية بحق مسؤولين، كما ندعو الى عدم الضغط على لبنان ربطاً بملفات اقليمية ودولية لأن هذا سيقود الى مواجهة لن تكون في صالح العدو الإسرائيلي، وإن وعد الله حق قال تعالى في كتابه العزيز “يا أيها الذين آمنوا إصبروا وصابروا وإتقوا الله لعلكم تفلحون” صدق الله العلي العظيم.