خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله
ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به الإمام الرضا(ع) أحد أصحابه، هذا الإمام الذي استعدنا ذكرى وفاته في السابع عشر من هذا الشهر، شهر صفر الخير عندما قال:
“لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يكون فيه خصال ثلاث: التفقه في الدين، وحسن التقدير في المعيشة، والصبر على الرزايا”.
إننا أحوج ما نكون إلى هذه الوصايا لنكون أكثر وعياً وتوازناً وقدرة على مواجهة الظروف الصعبة وابتلاءات الحياة، ومتى فعلنا ذلك سنكون مؤمنين حقاً وأكثر قدرة على مواجهة التحديات…
والبداية من معاناة اللبنانيين المستمرة والتي تتفاقم يوماً بعد يوم على الصعيدين المعيشي والحياتي وذلك بفعل الارتفاع المتواصل في أسعار السلع والمواد الغذائية والدواء والاستشفاء والنقل وكلفة التعليم في المدارس والجامعات، والذي يعود إلى تدني سعر صرف الليرة اللبنانية والارتفاع المتزايد في سعر صرف الدولار الأمريكي في بلد مدولر وإلى جشع التجار الكبار والسير بقرار رفع الدعم عن السلع الضرورية وآخرها البنزين، والذي لم تعد تداعياته تقف عند عدم قدرة اللبنانيين على تأمين احتياجاتهم الأساسية وجعلهم يتسكعون على أبواب من يساعدهم ويسد رمقهم من الداخل والخارج أو يبحثون في بلاد الواسعة عن بلد يلجأون إليه، بل وصلت تداعياته إلى أمنهم، بعدما لم تعد القوى الأمنية قادرة على تأمين احتياجاتها للقيام بمسؤولياتها في حفظ أمن اللبنانيين ومنع التعديات عليهم، وإلى جعل البلد مشرعاً على العدو الصهيوني وكل من يريد تخريب أمن البلد والمساس باستقراره، حيث بات من السهل وفي ظل هذا الواقع المزري تجنيد عملاء يعملون لحسابه ويهددون أمن البلد واستقراره طمعاً في الحصول على المال.
ومن المؤسف أن نصل إلى هذا الواقع وبكل تداعياته الكارثية على الصعيد المعيشي والأمني، فيما تقف القيادات المعنية في موقع المتفرج على المأساة التي يعيشها اللبنانيون من دون أن تحرك ساكناً.
في وقت يستمر فيه الانسداد على الصعيد السياسي حيث لا يبدو في الأفق وحتى الآن أي جهد جدي وفاعل يؤدي إلى تأليف حكومة تقوم بالدور المطلوب منها في هذه المرحلة لإخراج البلد من النفق المظلم الذي تتخبط فيه أو على الأقل للتخفيف من وقعه أو التوصل إلى توافق يهيئ المجال إلى انتخاب رئيس للجمهورية، الأمر الذي سيؤدي إن هو استمر إلى أزمة دستورية تجعل البلد في مهب رياح الفراغ بكل مخاطره.. والذي يواكب بتصعيد الخطاب والسجالات وتبادل الاتهامات واستنفار الغرائز الطائفية والمذهبية.
إننا أمام هذا الواقع، نقول لكل من يتحملون المسؤولية: كفى استهتاراً بمصالح الناس وعبثاً بمصائرهم، إن من واجبكم القيام بمسؤوليتكم تجاه من أودعوكم مواقعكم وذلك بالعمل الجاد لاجتراح الحلول التي تساهم في إخراج البلد مما يعاني منه، والإسراع بإنجاز الاستحقاقات التي تنتظر إن على صعيد الحكومة أو رئاسة الجمهورية، بعدما أصبح واضحاً أن العالم الذي قد ينتظره البعض لمعالجة أزمات البلد هو في شغل عنه أو أدار ظهره له يأساً منه أو ينتظر حتى يسلم هذا البلد قراره له.
إن عليكم أن لا تراهنوا على سكوت الناس وصبرهم، فهؤلاء الناس الذين سكتوا طويلاً لم يعودوا قادرين على تحمل المزيد من الإحباطات والتسويف في الحلول ومن عدم المبالاة بآلامهم وجراحهم، فلا تخرجوهم عن طورهم.
في هذا الوقت، ينتظر اللبنانيون الأعباء التي ستفرض عليهم لتغطية نفقات الموازنة الحالية، بعدما أصبح واضحاً خلوها من أي خطة اقتصادية ومالية متكاملة ومن أبسط مقومات الإصلاح الضريبي وتحفيز النمو الاقتصادي وتوفير الحاجات المحلة، وهي ستعتمد في إيراداتها على الاستدانة والرسوم والضرائب التي تصيب عموم الناس مقابل إيرادات أقل بكثير تأتي من الأرباح وأصحاب المداخيل الكبيرة.
إن من حق الدولة أن تفرض الضرائب لتسيير أمورها والقيام بمسؤولياتها، ولكن عليهم ألا يكرروا أخطاء الماضي بأن يأخذوا من الفقراء لحساب الأغنياء والمتنفذين في هذا البلد، بل أن يأخذوا من الأغنياء لحساب الفقراء الذين يحتاجون إلى من يسندهم في هذه المرحلة الصعبة.. إن على ممثلي الشعب أن يكونوا صوتاً لهم ومعبراً عنهم لا عبئاً عليهم ومشكلة لهم.
في هذا الوقت، تعود إلى الواجهة قضية المودعين بعد الضغوط التي مورست من عدد من المودعين على بعض المصارف لاسترجاع ودائعهم لحاجتهم الماسة إليها، ما كنا حذرنا مع الكثيرين من تداعياتها بعد الحوادث التي حصلت سابقاً، حيث شددنا ان على الدولة أن تعمل بكل جدية ومسؤولية على تطمين المودعين بأن أموالهم لن تضيع وستعود إليهم في خلال فترة زمنية محددة، وعلى الأخذ في الاعتبار الظروف الخاصة لبعض المودعين وعدم إهمالها.
ومع الأسف، لا تزال الدولة غائبة عن هذا الملف الحساس والملح ولا تزال المصارف تدير ظهرها لمن أودعوهم أموالهم، وتكتفي بوضع اللوم على المصرف المركزي أو الدولة أو الظروف التي يمر بها البلد في الوقت الذي يتحمل كل مصرف مسؤولية إرجاع الأموال التي أودعت لديه وإعادتها إلى أصحابها.
ونحن في الوقت الذي لا نشجع استخدام أسلوب الترهيب أو العنف لتحصيل المودع لأمواله خشية الوقوع في الفوضى أو أن يؤدي ذلك إلى ما لا تحمد عقباه، فإننا نأمل أن يكون ما جرى هو بمثابة جرس إنذار للمصارف وللدولة، لحل أزمة المودعين وعلى الأقل إشعارهم بأن قضيتهم هي في الواجهة وليست على هامش المصارف أو القضاء أو الحكومة أو المجلس النيابي.
في هذا الوقت، نحذر من خطورة الجرائم التي نشهدها في العديد من المناطق والسرقات التي تزداد وتيرتها وتهدد أموال الناس وممتلكاتهم، والتي تشير إلى مدى التفلت الأمني الذي بتنا نعيشه وإلى سهولة استعمال السلاح لمعالجة المشاكل التي تحدث أو التوترات، ما يستدعي استنفار الجهود من أجل إعادة الهيبة إلى الدولة وإلى القانون من خلال العقاب الرادع والجدي البعيد من التدخلات، وفي الوقت نفسه بذل كل الجهود التي تساهم في حماية المجتمع من التفلت القيمي والأخلاقي وتعزيز الرادع الداخلي الذي ينبغي أن يكون هو السبيل الأساس لمنع ما يحصل.
وأخيراً نتطلع بإكبار إلى الشعب الفلسطيني الذي يصر على مقارعة العدو ومواجهته رغم كل الضغوط التي يقوم بها وعمليات القتل والاعتقال والتهديم والحصار الذي يمارسه على هذا الشعب، وآخر ذلك العملية التي حصلت في جنين والتي أصابت من العدو مقتلاً.
إننا نحيي ثبات الشعب الفلسطيني وصموده الذي أصبح أكثر وعياً ومسؤولية اتجاه قضيته والذي أيقن أن الطريق لاستعادة الأرض ومنع استيطان العدو ليس بالتسويات بل باللغة التي يفهمها ويخشى منها.