خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله

خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله

ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بما ورد عن الحسين(ع) أنه جاءه رجل وقال له: “أنا رجلٌ عاصٍ ولا أصبرُ عن المعصية فعظْني بموعظةٍ فقال (ع): أفعل خمسةَ أشياءَ وأذنِبْ ما شئت، فأولُ ذلك: لا تأكلْ رزقَ اللهِ وأذنِبْ ما شئت، والثاني: اُخرج مِن ولايةِ اللهِ وأذنِبْ ما شئت، والثالث: اطلبْ موضعاً لا يراكَ اللهُ وأذنِبْ ما شئت، والرابع: إذا جاء ملَكُ الموتِ ليقبضَ روحَك فادفعْه عن نفسِك وأذنِبْ ما شئت، والخامس: اذا أدخلكَ مالكٌ في النار فلا تدخلْ في النارِ وأذنِبْ ما شئت”. قال له يا أبا عبد الله: أنا لا أستطيع ذلك، قال له: كيف تعصي رباً تأكل من رزقه وتعيش في أرضه ويراك وأنت تعصيه، وأنت غير قادر على أن تدفع الموت عنك إذا جاءك يدعوك للموقف بين يدي الله وتمنع عنك النار إن أنت استحقت ذلك، فقال له هذا الرجل: أشهدك أني لن أعصي الله بعد ذلك.
أيُّها الأحبة: إننا أحوج ما نكون إلى هذه الموعظة لنواجه كل تسويلات الشيطان وأنفسنا الأمارة بالسوء ومن يدعوننا إلى المعاصي، ومتى فعلنا ذلك سنكون أقوى وأقدر على مواجهات التحديات…
والبداية من لبنان حيث تستمر معاناة اللبنانيين وتزداد في ظل العودة إلى ارتفاع سعر صرف الدولار وتجاوزه لحدود الثلاثين ألفاً وفي الازدياد المتواصل في أسعار السلع والمواد الغذائية والخدمات والمحروقات ولكلفة الدواء والاستشفاء والنقل، فيما لا يزال من يديرون الواقع السياسي على حالهم، هم غائبون عن كل ما يجري أو غارقون بصراعاتهم وحساباتهم الضيقة، وإن تحدثوا فهم يكتفون بتوصيف الواقع، وكأن لا علاقة لهم بكل ما يجري ولا مسؤولية تقع على عاتقهم في إيصال البلد إلى ما وصل إليه، وإن قدموا حلولاً فهي للمستقبل البعيد، وغالباً ما تكون غير واقعية ولإسكات الناس وتخديرها.
ونحن في هذا المجال، نقول لكل هؤلاء: إن من مسؤوليتكم أن تبادروا إلى إيجاد الحلول الكفيلة بإخراج البلد من هذا التردي الذي وصل إليه وأنتم قادرون إن أنتم قررتم أن تخرجوا من مصالحكم الخاصة وحساباتكم الفئوية وجمدتم صراعاتكم وتعاونتم لإنقاذ وطنكم.
إن من المعيب أن يواجه وطناً مثل هذه التحديات الخطيرة والاستحقاقات المصيرية ولا يسارع فيه من يملكون زمام الأمر إلى علاج أزماته التي لن تحلّ إلا بورشة إصلاحات تعيد ثقة العالم به وبالإسراع بتأليف حكومة قادرة على النهوض به وعدم الوصول إلى فراغ على صعيد انتخاب رئيس للجمهورية كما بات يكثر الحديث عنه.
لكن مع الأسف لا حسابات للوقت في هذا البلد ولا حتى لمصير إنسانه بعد أن اطمأن من هم في النادي السياسي إلى أن الناس يقبلون بما هم فيه وأنهم آمنون على أموالهم المودعة في الخارج.
في هذا الوقت يستمر التجاذب بين القضاء والمصارف بعد إيقاف القضاء لأحد أصحاب البنوك لدعوى المودعين عليه، وما تلا ذلك من إضراب جمعية المصارف بهدف لجم القضاء ومنعه من اتخاذ أي قرار لمصلحة المودعين والقيام بمحاسبتها.
إننا أمام ما يجري نعيد التأكيد على حق المودعين في استعمال كل الوسائل القانونية التي تضمن استعادتهم أموالهم ممن اؤتمنوا عليها، وممن استفادوا طوال المرحلة الماضية منها وكسبوا الأموال الطائلة. وندعو القضاء أن يتابع دوره على هذا الصعيد وأن لا يقف أمام هذه الضغوط. وعلى المصارف أن تتحمل مسؤولية أموال المودعين وأن تتدبر أمرها في تأمينها، سواء إن كانت لدى الدولة أو في الخارج، ولعل الذي جرى بالأمس من احتجاز للموظفين في أحد المصارف يشكل جرس إنذار للتنبه إلى مخاطر إبقاء هذا الملف مفتوحاً على كل الاحتمالات.
وفي مجال آخر، لا يزال ملف ترسيم الحدود البحرية يشغل بال اللبنانيين الذين ينظرون إليه كبارقة أمل لتحصيل حقوقهم واستخراج ثرواتهم من البحر بما يساهم في حل الأزمة الاقتصادية والمالية التي يعانون منها، ونحن هنا نؤكد على ما أشرنا إليه سابقاً من أهمية الحفاظ على الموقف اللبناني الموحد والمستند إلى كل عناصر القوة الموجودة في هذا الوطن والذي هو يمنع العدو من ابتزاز اللبنانيين وإخضاعهم لشروطه.
وندعو في الوقت نفسه إلى الجهوزية والاستعداد لمواجهة سياسة التمييع الذي بتنا نشهدها من هذا العدو والذي يعمل من خلالها على عدم إعطاء لبنان حقوقه كاملة.
إن على اللبنانيين أن يعلموا أن هذه الثروة ثروتهم جميعاً، فهي لا تخص طائفة بعينها أو موقعاً سياسياً بل تخص كل اللبنانيين، وباتت أملهم للخروج من الواقع الذي يعانون منه، ونحن ندعو الجميع إلى الانخراط في المواقف الداعية إلى استعادة لبنان حقه في ثرواته وأن يتعاونوا لأجل تحقيق هذا الهدف.
ونبقى على صعيد الداخل، لنثمن كل جهد للتلاقي بين القوى السياسية الفاعلة، وندعو إلى توسعة لغة الحوار فيما بينها، بما يخفف من التوترات والاحتقانات ويعزز الاستقرار.
وضمن هذه الأجواء، تطلّ علينا في الرّابع عشر من شهر آب، الذّكرى السادسة عشرة للانتصار الّذي تحقّق في العام 2006، والذي استطاع من خلاله اللبنانيون أن يفشلوا الأهداف التي أرادها العدوّ الصّهيوني من خلال عدوانه.
ونحن في هذا اليوم، نجدد دعوتنا للبنانيين إلى إنعاش ذاكرتهم بكلِّ صور البطولة والإقدام والتضحية التي نقلتها الشاشات والإذاعات ووسائل التواصل في ذلك الوقت، لا لكي نزهو بتلك الإنجازات، أو لنعيش عليها، أو لندخلها في بازار الصّراع الداخلي، بل لتعزّز فينا الأمل بإمكان الانتصار على العدو في مواجهة أي عدوان جديد، ولتزيدنا وعياً وإحساساً بضرورة الحفاظ على ما صنع من إنجازات، بأن لا نفرّط فيها، وأن يبنى عليها إنجازات أخرى نحن أحوج ما نكون إليها، في مواجهة الاحتلال الجديد لثروة لبنان الوطنية ولحدوده البحرية، وبالعمل في الوقت نفسه على تثبيت الأرض من خلال تأمين مقومات الصمود فيها على كل الصعد…
وأخيراً إننا أمام ما جرى وما يجري في فلسطين، نجدد اعتزازنا بهذا الشعب الذي يثبت في كل يوم أنه على استعداد لبذل التضحيات الجسام لاستعادة أرضه وحفظ مقدساته، والذي نراه على لسان أمهات الشهداء وآبائهم وفي العنفوان الذي نراه في المواجهات البطولية رغم الآلام والحصار.
إننا نؤكد مجدداً على وحدة هذا الشعب بكل فصائله وتياراته في مواجهة العدو، وندعوه إلى السهر على منع الإيقاع فيما بين فصائله عمل عليه العدو خلال المواجهة الأخيرة والتي أثبت فيها هذا الشعب مجدداً أن المقاومة عصيّة على العدو وأنها تستطيع توجيه ضربات موجعة له مهما تصاعدت حدة غدره وأساليب إرهابه.