كلمة الشيخ الخطيب في اخر مجلس عاشورائي في المجلس الشيعي

كلمة الشيخ الخطيب في اخر مجلس عاشورائي في المجلس الشيعي

برعاية وحضور نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب احيا المجلس اليوم التاسع منعاشوراء لهذا العام في مقر المجلس بحضور شخصيات سياسية ونيابية، وقضائية واجتماعية وعلماء دين ومواطنين، وتلا المقرئ أنور مهدي ايات من الذكر الحكيم، وقدم الحفل د. غازي قانصو ، والقى العلامة الخطيب كلمة استهلها بالقول: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّد المرسلين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين، السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك وأناخت برحلك.السلام على الحسين وعلى عليّ بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أنصار الحسين.وأعظم الله أجورنا وأجوركم بمصابنا بأبي عبد الله الحسين (ع).والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

في هذه اللحظات تبلغ مسيرة عاشوراء نهايتها في اليوم التاسع من المحرم من العام 61 للهجرة، حيث استقرّ المقام بأبي عبد الله الحسين وبأهل بيته وأنصاره ممن تبقّى معه من الجموع التي واكبته في الطريق رغبة في المغانم والمواقع والمناصب إذ بدا لهم في بداية الطريق أن هذه الحركة للإمام الحسين (ع) ستنتهي الى النصر، ولكن الإمام الحسين (ع) الذي كان يعلم النهاية وأنه لا انتصار يرُجى في ظلّ الظروف التي انتهى اليه وضع الأمة وخصوصاً منذ فتنة مقتل عثمان والاضطرابات الاجتماعية والسياسية التي حكمت هذا الواقع بتحريك من الحزب الاموي، وانعكس بشدة بعد ذلك على الواقع السياسي في فترة حكم أمير المؤمنين (ع) الذي قَبِلَ تولي الحكم مكرهاً وقد كان عليه السلام تنبّه مبكّراً وبالأخصّ بعد بيعة الغدير أن هناك واقعاً جديداً يتكوّن للحؤول دون تسلّمه السلطة واستكمال المسيرة النبوية.

وبرز هذا الواقع جليّاً عند مرض رسول الله (ص) الأخير الذي حاول تهيئة الأمور لاستلام عليّ الحكم بالتمرّد على أمره (ص) بالانخراط بالجيش تحت قيادة أسامة ثمّ بالردّ على رسول الله واتهامه بالهجر من أحد الصحابة في مجلسه حينما دعاهم ليوثّق أمامهم تنصيبه لعليّ (ع). وكانت هذه الصورة واضحة لدى الرسول (ص) التي ظهرت من خلال وصيته لعليّ(ع) بالصبر على هذا الأمر وعدم الانخراط في منازعة القوم والدخول في مواجهة والاكتفاء ببيان حقّه الذي مارسه أولاً بالامتناع عن بيعة الخليفة الأول، اعقب ذلك الهجوم على بيت علي (ع)، و استكملت  الزهراء (ع) هذا الموقف بإلقاء الحجّة على المسلمين في الخطبة التي ألقتها في مسجد النبي (ص)، وانهتها ببيت الأحزان ثم بوصيتها أن تُدفن سراً الذي بقي الدليل الواضح والصارخ على الظُلامة التي ارتكبت بحق الدين لدى الأجيال الى يوم القيامة، لقد كان التهديد بإحراق الدار على علي ولو كان فيها فاطمة، نقطة التحول العملي لدى الاجتماع السياسي للامة وبداية عهد جديد كانت السلطة فيه نقطة الارتكاز، وإلا أُحرق و أصبح عليّ (ع) بين أمرين: إما الدخول في نزاع يكون ضحيته الدين ورسالة الإسلام، وإما الصبر حفاظاً على بقاء الإسلام فآثر الصبر والسكوت وقال كلمته المشهورة :” لاسالمن ما سلمت أمور المسلمين”.

كل هذه الوقائع كانت حاضرة لدى الإمام الحسين (ع) ، وهو يعدّ لحركته مدركاً أن الظروف غير مهيئة لإحداث تغيير بهذا الاتجاه، وأن الهمّ الذي حكم موقف أمير المؤمنين (ع) بالصبر والاكتفاء بالاحتجاج والمعارضة وتسجيل الموقف هو الذي حكم موقفه باختيار هذا الأسلوب في المواجهة، أي أن سلامة الدين والرسالة و أن يستشهد في كربلاء مع أبنائه وإخوته وأنصاره وسبي نسائه الذي سيؤدي الى حفظ الرسالة و سلب الشرعية عن حكم بني أمية وفضح أهدافهم، من خلال المواقف التي وقفها الإمام زين العابدين (ع) في خطبته للشاميين أمام يزيد وكذلك مواقف السيدة زينب (ع) التي لعبت دوراً كبيراً في فضح الحكم الأموي وما ارتكبه من جريمة قتل سيد الشهداء وأصحابه في خطبتها في الكوفة امام عامل يزيد او في المسجد  الاموي في مواجهة يزيد التي كادت ان تحدث انقلاباً في الشام على يزيد لولا استعجاله إرجاع السبايا الى المدينة، حيث استمر الإمام زين العابدين (ع) والسيدة زينب (ع) في لعب هذا الدور الذي أدى في نهاية المطاف الى القضاء على الحكم الأموي. لقد كان الهدف الأموي هو القضاء على الإسلام الذين لم يؤمنوا بالإسلام واعتبروا المسألة هي صراع على السلطة، وأن المواجهة مع محمد (ص) ورسالته هي مسألة انتقام عشائري أرادوا بها التخلص من محمد ودينه عبّر عنه يزيد بشكل صريح وواضح، معتبراً أنه انتهى من محمد ورسالته بقتله الحسين وأهل بيته بقوله: (لا تبقوا لأهل هذا البيت باقية) وتلاه قوله بعد مقتل سيد الشهداء (يوم بيوم بدر).

إذاً تحوّلت المسألة من مسألة رسالية أُريد للأمة فيها أن تكون الأمة الرسالية والشاهدة على الناس الى صراع على السلطة قد تكون ضحيته الرسالة لو أن أمير المؤمنين (ع) قبل استدراجه اليه، وباتخاذه هذا الموقف بالخروج من هذا الصراع وألا يكون طرفاً فيه استطاع تحييد الرسالة والحفاظ عليها وهو ما يفسّر موقفه الممتنع عن القبول بالحكم بعد مقتل عثمان حينما اجتمع عليه الناس ليبايعوه قائلاً لهم: (أن أكون لكم وزيراً خير لكم مني أمير)، لأنه كان يعلم أن ما أُسّس له في السقيفة خلق الأجواء التي تستدعي استمرار الصراع على السلطة، ولكنه آثر قبول البيعة ليتحمّل من وضعه تحت الامر الواقع مسؤولية ما سيجري على أن يُحمّل مسؤولية استمرار الفتنة ووزرها، وهو ما جرى بالفعل معه حيث نكث البيعة قوم وقسط قوم ونكث آخرون، ولكنه لم يكن يتخلى عن مسؤولياته في الدفاع عن الدولة وكان الصدام حتمياً مع الأمويين بزعامة معاوية الذي تمرّد عليها مُشعلاً الصراعات التي واجهها أمير المؤمنين (ع) التي انتهت باستشهاده، واستطاع أن يدخل الى مكونات المجتمع العراقي مستغلاً حالة الضعف الذي انتابته نتيجة انشغاله بسلسلة حروب خاضها في مواجهة الخارجين على الحكم وما أحدثه التحكيم في نفوس العراقيين بعد الانقسام في جيش أمير المؤمنين واستخدام معاوية للترهيب والترغيب للقبائل العراقية وزعمائها الذين بدأوا بالتفكير في حفظ رؤوسهم بعد الهزيمة النفسية التي أصابتهم أو خضوع بعضهم للمغريات التي قدمها لهم معاوية فأجبروا الإمام الحسن (ع) على الصلح واستسلموا لإرادة معاوية.

ولولا أن علياً (ع) واجه هذه الظروف التي أعقبت اغتيال عثمان وأجبرته على قبول البيعة لكانت الأمور ذهبت باتجاه آخر، ولما وصلت بتقديري الأمور الى معاوية كما اشتهى، وإلا لماذا رفض أمير المؤمنين هذه البيعة أولا ودعاهم الى اختيار غيره ، ولعله كان أقدر على الحؤول دون معاوية والحكم، لو جرت الأمور على هذا التقدير.

وما أريد أن أسلّط الضوء عليه هو أن أهل البيت (ع) مع استشرافهم لهذا الواقع و التحول الخطير الذي حدث في الامة، وأن  عليّ (ع) كان بين أمرين بين سلامة الرسالة وبين الدخول في صراع على الحكم وانتزاع حقّه تكون الرسالة فيه الضحية، فأختار التضحية بحقه وسلامة الرسالة.

وقد مارس أئمة أهل البيت (ع) بعد استشهاد الإمام الحسين (ع) هذا الدور في الحفاظ على الرسالة وتفسيرها وتعليمها وتأسيس المدارس وتخريج العلماء الذين عملوا على نشرها ومواجهة أفكار الزندقة والانحراف العقائدي، وقد ازدهرت حركة الأئمة هذه في آخر العهد الأموي وبرز فيها الإمامان الباقر والصادق وتلاهم سائر أئمة أهل البيت (ع)، ولم يدخلوا في صراع مباشر مع السلطة العباسية التي شكلت احدى مراحل هذا التحول في المجتمع الإسلامي و الدخول في حقبة الصراع على السلطة مستغلين نقمة الامة على الأمويين وتعاطفها مع أهل البيت (ع) فرفعوا شعار:(يا لثارات الحسين) حتى اذا وصلوا الى السلطة لاحقوا العلويين الذين أصابهم منهم أشدّ مما أصابهم من الأمويين.

لقد كانت ثورة الإمام الحسين بمثابة العملية الجراحية في جسد الأمة إذ لم يكن بالإمكان استخدام أسلوب ناجع آخر سوى هذا الأسلوب وهو القضاء على الحكم الأموي ونزع الشرعية الدينية عن  أن يقدّم نفسه وأهل بيته شهادة هذه القضية وفضحت الحكم الأموي.

لقد أكّدت مدرسة أهل البيت (ع) و ممارسة امير المؤمنين عليّ (ع) والإمام الحسن والإمام الحسين(ع)  أن السلطة ليست ذات قيمة بحدّ ذاتها، وإنما هي وسيلة لتطبيق ونشر الرسالة وتحقيق العدالة الالهية، ولذلك فإن أهل البيت لم يدخلوا في صراع على السلطة مطلقاً،  وافشلوا المقولة التي روج لها الحكم الاموي بأن الصراع مع العلويين صراع على السلطة، واسسوا لروايتهم في الحكم بأنها منصب إلهي كالنبوة، ولقاعدة ان لا ولاية لأحد على أحد بالأساس والولاية هي فقط لله تعالى يخصّها من يشاء من عباده الذين اصطفى {ِانَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.{ِ يا إبراهيم اني جاعلك للناس إماماً}

لقد أسس اهل البيت رؤية جديدة للسلطة والحكم واشاعوا في اتباعهم فكرة سلطان الجور الناشئ بعيداً عن مفهوم الدين، وانها سلطة غير شرعية يحرم التعاون معها والانخراط بها.

أيها الاخوة، لقد كانت السلطة دائماً مورداً للتنازع والخصومة ومصدراً للفساد ومدخلاً للشرّ على العالم. على ان المفهوم الجديد للحكم الذي نشأ بعد التحولات الكبرى في اوروبا وخصوصاً بعد الثورة الفرنسية على أساس الديمقراطية المزعومة  القائمة نظرياً على أساس اختيار الشعب ليست إلا دكتاتورية حزبية مقنّعة أو دكتاتورية الشركات والمصالح الكبرى التي أرست الاستقرار الداخلي في البلدان الرأسمالية الكبرى على حساب بلدان العالم الثالث، ترفع عناوين برّاقة من إشاعة الديمقراطية وتمارس الدكتاتورية على العالم وتفرض عليها التبعية في كل المجالات، وما يهمها فقط هو فرض أنظمة تابعة لها تحقق لها مصالحها، وحتى في البلدان التي تسمى ديمقراطية التي تلعب الشركات الكبرى والامبراطوريات الإعلامية دوراً مهماً في توجيه الرأي العام، فليست سوى ديكتاتوريات مقنّعة بإسم الديمقراطية على أنها تدعم أنظمة ديكتاتورية لا تعرف الديمقراطية والانتخاب أصلاً، وهي على استعداد لخوض الحروب الكبرى من أجل فرض إرادتها ونفوذها واستحواذها على ثروات البلدان الفقيرة ومنها الثروة النفطية، وهو ما يحدث وما زال في منطقتنا حيث تدعم العدوان الإسرائيلي الذي شرّد شعب فلسطين من أرضه واحتل أرض عربية أخرى بالدعم اللامحدود الذي يقدمّه الغرب وهو يمارس العدوان على البلدان المجاورة، فيما يقوم وبشكل ممنهج في إعدام الشعب الفلسطيني واحداث الفتن في البلدان المحيطة بفلسطين المحتلة وتخريبها حتى تبقى إسرائيل هي الأقوى وتبقى لها السيطرة على المنطقة العربية التي تفرض عليها التطبيع مع هذا العدو وتشجع بشكل خفي وعلني على إمساك الفاسدين بالسلطة  لتمهيد الطريق امام هذا المشروع الخبيث وتواجه أي عملية إصلاحية في بلدنا لبنان، فحريّ باللبنانيين أن يُخرجوا أنفسهم من تأثير هذا المشهد الكاذب.

إنّ ما يحدث في فسلطين اليوم هو أكبر عار على الدول الداعمة للكيان العبري والتي تمدّه بالمال والسلاح وتدعمه بالإعلام الذي يشوّه حقيقة الصراع مع هذا العدو ويغطّي على الجرائم التي يرتكبها في حق الشعب الفلسطيني المظلوم وحقوق سائر الدول المحيطة وشعبها العربي المسلم في الأمم المتحدة ويمنع صدور قرار من مجلس الأمن يدين هذه الجرائم التي ترتكب بحق أطفال ونساء غزة والضفة الغربية.

إن الشعب الفلسطيني اليوم يخوض معركة الامة في مواجهة هذا المشروع الخطير مع قوى المقاومة الحليفة والداعمة له، وبانتصاره في هذه المعركة يصنع بداية النهاية لمشروع التفتيت والتقسيم، ويؤسس لنهاية محتومة لنظام الهيمنة الدولي المخادع ولمرحلة جديدة من التحرر وتحقيق عزة الامة وكرامتها.

تحية الاكبار والاعزاز للشعب الفلسطيني ولمقاومته وشهدائه، وما النصر الا من عند الله العزيز الحكيم.

صلى الله عليك يا أبا عبد الله واعظم الله اجوركم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.