خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله

خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله

ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بإحياء هذه الأيام العشر من شهر ذي الحجة الحرام التي بدأنا بها، حيث ورد في الحديث عن رسول الله(ص): “مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ اْلأيَّامِ الْعَشْرِ”، حيث ورد فيها استحباب الصيام في الأيام التسعة الأولى منها، والعديد من الصلوات والأدعية والأذكار، والحث على إحياء ليلة عرفة ويومها لما لهما من فضل وموقع وما فيها من بركات وخيرات.
فلنملأ هذه الأيام العشر بصلواتنا وأذكارنا ونجاوانا، كي نحظى ببركات الله وفضله وإحسانه في هذه الأيّام الّتي تُغفَر فيها الذنوب، وتستجاب فيها الدّعوات، وتفتح فيها أبواب الجنان، وتغلق فيها أبواب النيران.
إننا أحوج ما نكون إلى تمتين علاقاتنا بالله الذي بيده، وبيده وحده، تغيير حالنا، وإخراجنا من أزماتنا وصعوبات الحياة الّتي نواجهها، ولنكون بذلك أقوى وأقدر على مواجهات التحدّيات…
والبداية من الوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب والمأساوي والذي بات يثقل كاهل المواطنين وينؤون به، ولم تعد آثاره تقف عند ارتفاع الدولار الأمريكي في مقابل العملة الوطنية وأسعار السلع والمواد الغذائية والمحروقات والاستشفاء، وأخيراً الاتصالات وعدم توفر الكهرباء والماء والعديد من الأدوية الضرورية لعلاج الأمراض المستعصية وطوابير الإذلال للحصول على الخبز لقمة عيش اللبنانيين والطحين.
وقد كان من الطبيعي أن تنعكس هذه المعاناة على الوضع النفسي للكثير من اللبنانيين وينعكس عليهم توتراً وانفعالاً، وهو ما أشارت إليه المنظمات الدولية المعنية عندما صنفت لبنان، أنه الدولة الأعلى في معدل الغضب حيث ذكرت أن 49% من اللبنانيين يعانون من الغضب الشديد، والكل يعرف مدى التداعيات التي يتركها الغضب والانفعال والتوتر الداخلي على الإنسان الغاضب نفسه وعلى صورته في المجتمع، وما قد يتسبب به على صعيد عائلته أو موقع عمله أو المجتمع الذي يعيش فيه أو من يلتقي بهم، إن لم يجد من يرد غضبه أو يستوعبه، فأكثر الجرائم وحالات التفكك الأسري والاجتماعي هي نتاج الغضب.
ونحن قد لا نحتاج إلى مثل هذه التقارير ليتبين لنا ذلك، فيكفي ما نشاهده يومياً من توترات ونزاعات تحدث في البيوت أو الطرقات أو الأماكن الخاصة والعامة، بل تصل إلى من يتولون مواقع المسؤولية ونشهد آثارها في التصريحات والمقابلات وحتى في القرارات التي يتخذونها…
ومن هنا، فإننا ندعو إلى معالجة هذه الظاهرة وأخذها بالجدية على المستوى الديني والتربوي والنفسي، والأهم العمل على معالجة أسبابها التي تتصل بمعاناة إنسان هذا الوطن.
ومن هذا الباب ننتقل إلى الوضع الحكومي، لنشدد على ضرورة الإسراع في تشكيل الحكومة، وعدم التأخير بتأليفها تحت أي ذريعة، لمعالجة الأزمات التي يعاني منها الوطن والمواطن أو على الأقل التخفيف من وقعها عليهم…
وأن لا تضيع بمقاطعة بعض القوى السياسية لها أو بفعل الشروط والشروط المضادة التي تتصل بالشكل أو العدد أو نوعية الحقائب التي يطالب بها هذا الفريق أو ذاك أو هذه الطائفة أو تلك.
فالبلد لا يمكن أن تعالج أزماته بحكومة تصريف أعمال، بل بحكومة فاعلة وتحظى بالتوافق حولها، ليكون بمستوى التحديات المعيشية والمالية والإصلاحية والأمنية الملحة، وقادرة على أن تعالج المشكلات وأن تعمل بكل طاقتها ولو في مرحلة قصيرة، ونحن لا نراها قصيرة في ظروف البلد الذي لا يتحمل إهدار الوقت أو التسويف.
إن على كل القوى السياسية أن تتحمل مسؤوليتها على هذا الصعيد، فالوقت ليس وقت تسجيل نقاط أو تقاذف كرات أو تحقيق مكاسب آنية أو مستقبلية وليس وقت مناكفات وصراعات، بل هو وقت إنقاذ لبلد يتداعى وإنسان بات الهروب من هذا البلد من أولويات ما يفكر به، والذي امتد ليطاول العناصر الأمنية بعد القطاع الاستشفائي والتربوي..
في هذا الوقت يستمر إضراب المؤسسات العامة والتي أصبح من الواضح مدى تأثيرها على معاملات الناس والتي تعرقل حياتهم على كل الصعد.
ونحن في الوقت الذي نقف فيه مع مطالب العاملين في المؤسسات العامة وضرورة إنصافهم لتأمين سبل عيش كريم لهم، ندعو، وفي ظل استمرار هذا الإضراب والذي قد يطول، إلى الرأفة بالمواطنين والبت بالمعاملات الضرورية لهم والتي قد يؤدي التأخير بها إلى تعطيل مصالحهم أو التأثير على مصالح بقية المواطنين.
أما على الصعيد الإقليمي، فإننا نطل على المزيد من الاحتقان الذي يشهده العالم في ظل الصراع الموجود على أرض أوكرانيا بين الروس والغرب والذي بات يخشى من تداعياته الخطيرة على صعيد أمن العالم والغذاء. وفي هذا المجال نجدد دعوتنا للعالم العربي والإسلامي إلى توحيد صفوفه في مواجهة أي تداعيات لهذه الحرب حتى لا نكون وقوداً لها أو بقرة حلوب في هذا الصراع لحسابات خارجية.
وهنا ننوه بكل مبادرة لإعادة مد الجسور وتعزيز التلاقي بين الدول العربية والإسلامية، لكننا في الوقت نفسه نحذر من مغبة أي توجه لتوفير أي مظلة أمنية سياسية للعدو الصهيوني، قد تساهم في تعزيز موقعه ودوره في المنطقة، وتشجعه للتمادي في تصفية القضية الفلسطينية، أو أن تكون سبباً لاحتدام الصراعات في هذه المنطقة من العالم، والذي من الطبيعي تؤدي إلى إضعافها وارتهانها.
وأخيراً أننا نحيي في الرابع من تموز الذكرى الثانية عشرة لرحيل المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض)، وهو الذي ملأ حياتنا بحضوره علماً وفقهاً وجهاداً وعملاً دؤوباً من أجل بناء الإنسان وبناء الأوطان وتحرير الأمة وتوحيدها، وكان صلباً في مواجهة التخلف والغلو، ومقاومة الاحتلال والاستكبار، وعمل جاهداً لحفظ القيم وتعزيز مناخات اللقاء بين الأديان والمذاهب والشعوب والحضارات، وهو عندما غادرنا لم يتركنا بدون زاد، بل ترك لنا زاداً وفيراً على صعيد الفكر والفقه والحركة والمؤسسات والمواقف والكلمات التي تحفز دائماً الوعي والإرادة والقوة والعزيمة والحضور، وتدعونا إلى عدم اليأس مهما عصفت التحديات واشتدت الأزمات، و”أن أكملوا المسيرة…”.
وفاؤنا له أن نتابع ما بدأ ونراكم عليه، وأن لا نخذله في أي موقع عمل فيه، هو ينتظرنا في ذلك وأقل الوفاء هو حضورنا ومشاركتنا الفاعلة في ذكراه يوم الاثنين في الرابع من تموز هنا في المكان الذي أحب وبقي يتردد عليه حتى في أصعب الظروف وأحلكها، والحصن الذي تحصن به في حرب تموز وسط هدير الطائرات وتساقط الأبنية، وأوصى أن يكون مرقده فيه، حيث ستقام في هذه المناسبة ذكراه والتي أُخذ فيها بالاعتبار كل الظروف على مستوى الشروط الصحية ومدة البرنامج…
والفاتحة إلى روحه وإلى أرواح أمواتكم جميعاً…