خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله

خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله

ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

 

عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بوصية رسول الله(ص)، فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع): “أن رجلاً جاء إلى رسول الله(ص)، فقال له يا رسول الله أوصني؟ فقال له(ص): فهل أنت مستوص إن أنا أوصيتك؛ فقال نعم يا رسول الله، فقال له رسول الله(ص): فإني أوصيك إذا أنت هممت بأمر فتدبّر عاقبته، فإن يك رشداً فأمضه، وإن يك غيّاً فانته عنه”.

هذه وصية رسول الله(ص) لنا، أن لا ننظر إلى بدايات الأمور بل إلى نهاياتها وما قد ينتج عنها من عواقب، فكم من أناس فرحوا في البدايات ولكنهم ندموا في النهايات، ما يدعونا إلى أن نتدبر جيداً وبكل دقة ما قد يؤدي إليه العمل الذي نقوم به والقرار الذي نأخذه والموقف الذي نطلقه، حتى لا نحصد إلا الخير مما نفعل ونتقي العواقب، وقد ورد عن علي(ع): “من نظر في العواقب سلم من النوائب”.

وبذلك نكون أكثر وعياً ومسؤولية وأكثر قدرة على مواجهة التحديات…

والبداية من لبنان حيث يطوي اللبنانيون سنة ميلادية جديدة ولما تنتهي بعد معاناتهم على الصعيد المعيشي والحياتي والاجتماعي، في الارتفاع المستمر وغير المحدود للدولار الأمريكي، وإذا كان من انخفاض قد نشهده فهو انخفاض بعد ارتفاع، وهو آني وأمده محدود وجزء من اللعبة التي بات يتقنها المصرف المركزي.

وكما بات واضحاً أنه بارتفاع الدولار ترتفع قيمة الاحتياجات الضرورية للمواطن اللبناني إن على صعيد الغذاء أو على صعيد الاستشفاء الذي بات يشكل الهم الأساس له، حتى بات البعض يخشى من الذهاب إلى المستشفى إن ألم به عارض ويكتفي بالمسكنات، ويعجز عن تأمين الكهرباء والماء والمحروقات وسبل التدفئة والنقل، وما يزيد من الأوضاع سوءاً رفع الدولة للرسوم والضرائب، وليس آخرها ارتفاع سعر الصيرفة إلى 38 ألف ليرة.

يجري ذلك من دون أن يجد اللبنانيون ما يستندون إليه، فلا الرواتب التي يحصلون عليها أو مردودات أعمالهم تكفيهم، ولا هم قادرون على الوصول إلى ودائعهم فيما لا وجود لدولة تخطط لهم لتخرجهم من معاناتهم ولتنقذهم من المنزلق الخطير الذي وصلوا إليه.

لقد كنا نأمل ممن تحملوا المسؤولية في هذا البلد وأمانة الناس فيه أن لا ينطوي هذا العام إلا قد قاموا بمسؤوليتهم لرفع هذه المعاناة، وذلك بتحريك عجلة الدولة والذي تكون البداية فيه بانتخاب رئيس للجمهورية أمين على هذا البلد، وصولاً إلى حكومة فاعلة قادرة على النهوض بأعبائه، لكن خاب ظن اللبنانيين حين لم يبد أي من هؤلاء أي استعداد لتجاوز أوهامهم أو حساباتهم الخاصة ومصالحهم الفئوية لإيجاد صيغة توافق لتأمين هذا الاستحقاق، ما يبقي الدولة في حال المراوحة القاتلة والتي قد تتحول إلى دويلات إن بقي كلٌّ على مواقفه، لا يريد التنازل لحساب هذا الوطن واستقراره، وبعدما أصبح واضحاً أن الخارج الذي يراهن عليه البعض ويستدرجه للتدخل كما يتردد دائماً إما غير مبال أو متورط في صراعاته العالمية والتي قد يكون لبنان واحد من ساحاتها…

 

إننا لا نريد أن نغرق في التشاؤم، سنبقى نأمل بمبادرات تأتي إن من الداخل أو الخارج ممن لا يزالون يحملون هم هذا البلد ويتحسسون معاناة أبنائه وآلامهم التي تزداد يوماً بعد يوم.

وإلى أن نصل إلى هذه المرحلة، فإننا ندعو اللبنانيين جميعاً أن لا يزيدوا جراحاتهم جراحات ومعاناتهم معاناة وآلامهم آلاماً، وأن يعمقوا الانقسام بينهم، إننا ندعوهم إلى الابتعاد عن كل خطاب يؤدي إلى استفزاز المشاعر الطائفية والمذهبية والسياسية، أو يحمل إيحاءات تؤدي إليه.

لقد بات واضحاً ما قد تؤدي إليه الكلمات عندما تطلق على عواهنها بدون تدبر دقيق من آثارها في جو مشحون كالجو الذي نعيشه في هذا البلد والمتوتر دائماً، لذا نقولها هنا للجميع، وخصوصاً للذين يملكون مواقع سياسية أو إعلامية أو مواقع تواصل أو منابر توجيه ولا سيما أولئك الذين يرون الكلمة مسؤولية: من كانت لديه كلمة طيبة فليطلقها، ومن كانت لديه كلمة تسيء إلى كرامات الناس أو أعراضهم، فليرح الواقع من تداعياتها.

إن من حق كل إنسان في هذا البلد أن يطلق الكلمة التي يريدها في بلد موصوف بالحرية، ولكنها الكلمة المسؤولة التي توحد القلوب لا التي تفرقها والتي تعزز القيم التي لا تسيء إليها…

إن علينا أن نتقي الله في هذا البلد الذي عمل ويعمل الكثيرون ممن لا يريدون له خيراً، أن يبقى منقسماً على نفسه وأن يكون بلد العصبيات والانفعالات والتوترات ليسهل العبث بأمنه واستقراره وليضعف كل مواقع القوة فيه، لا سيما المقاومة التي أثبتت جدارتها في ردع العدو الصهيوني ومنعه من تحقيق أطماعه.

إننا نعيد دعوتنا السابقة إلى وسائل الإعلام أن تكون أمينة على رسالتها الوطنية والإنسانية أن تكف عن نشر كل ما يؤدي إلى شرخ بين اللبنانيين أو مس بالقيم الإنسانية والأخلاقية، في الوقت الذي ندعو من يستخدمون مواقع التواصل والعالم الافتراضي أن يتبصروا جيداً بتداعيات ما يكتبونه وأن يكون رد الفعل على ما قد يصدر من الآخرين عادلاً وموضوعياً وبعيداً عن الإساءات الشخصية، فلا يرد الإساءة بالإساءة بل تكون غايته منع الخطأ ووأد الفتنة.

من موقعنا سنبقى حريصين في هذا البلد على حفظ كرامات الناس، كل الناس، كما أمرنا الله، بصرف النظر عن دينهم وجنسهم ومذهبهم وعرقهم، فهذه مسؤوليتنا وواجبنا أن نحميها إن هي تعرضت للإساءة، وسنبقى مصرين على إطلاق الكلمة الطيبة، لأنها دعوة الله لنا ورسوله، وفي الوقت نفسه سنبقى حريصين على أن تئد أية فتنة يراد لها أن تستعر في هذا البلد وأن لا نسمح للمصطادين بالماء العكر أن يجدوا أرضاً خصبة لهم.

ونقف عند نيل الثقة في الحكومة الصهيونية الجديدة التي تشير المواقف التي تصدر عن وزرائها أنها حكومة حرب على الفلسطينيين وفي مواجهة العرب والمسلمين…

وفي هذا الجو، فإننا ندعو إلى التنبه جيداً مما قد تقدم عليه حكومة العدو من مغامرات عدوانية وتوفير كل شروط الاستعداد لمواجهتها…

إننا نرى أن كل هذه التهويلات والتهديدات التي يطلقها العدو لن تهز من معنويات الشعب الفلسطيني ولا من صمود الشعوب العربية والإسلامية، بل سيزيدها قوة ومنعة وإصراراً على المواجهة، لا سيما أبطال فلسطين الذي ثبتوا في أقسى الحروب التي شنها العدو على غزة، ولا يزالون كل يوم يلقنونه دروساً في البطولة والجهاد من خلال العمليات المتواصلة في الضفة الغربية، وكما هو عاجز في فلسطين هو عاجز في مواجهة الجمهورية الإسلامية، والتي يهدد هذا العدو كل يوم باستهدافها، وهي بالقدرات التي تملكها وبالحضور الفاعل والقوي لها في كل الجبهات قادرة على حماية نفسها وردع هذا العدو عن ارتكاب أية حماقات.

وأخيراً نحن على أعتاب بداية سنة جديدة، فإننا نسأل الله سبحانه أن تحمل إلينا تباشير الخير والبركة والأمن والأمان والصحة على لبنان والمنطقة والعالم، وأن تكون كما ندعو دائماً ليلة هادئة تسمح بالتفكير والتأمل والمراجعة الذي نحن بأمس الحاجة إليه، المراجعة لماضٍ عشناه ومستقبل نخطط له ونريده خيراً من ماضيه.