عرينُ الأُسودِ ظاهرةٌ شعبيةٌ دائمةٌ أم حالةٌ تنظيميةٌ عابرةٌ>>بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
نجحت كتائب “عرين الأسود” في بث الرعب والخوف في قلوب الإسرائيليين، وأقلقت كثيراً سلطاتهم الأمنية، وأربكت قواتهم العسكرية، وأدخلت الاحتلال في تحدٍّ جديدٍ ومواجهاتٍ دائمةٍ، وكشفت عن عميق تخوفهم وشديد توجسهم من تنامي قوة الكتائب واتساع نطاق عملها وانتشار عناصرها وتعميم مقاومتها.
فقد تمكنت المجموعة رغم حداثة نشأتها وقلة عدد أعضائها، وقسوة الحرب ضدها، والحصار المفروض عليها وعلى مدينتها، من فرض نفسها وإظهار دورها، وأعلت بعملها من شأن المقاومة، ورسم قادتها باستقلاليتهم وتنوع انتماءاتهم صوراً رائعة للبطولة والتحدي، وأضحت كلماتهم خلال المواجهة أو في وصاياهم الأخيرة أثناء الحصار وخلال ساعات الاشتباك العصيبة، درباً يحتذى ونوراً يستضاء به، ومعاني يُستشعرُ بها العزة والكرامة والشمم والإباء.
عبأت سلطات الاحتلال قواتها، وكلفت جيشها وأجهزتها الأمنية، واستعانت بفرق المستعربين والوحدات الخاصة، واستخدمت أقمارها الصناعية وطائراتها المسيرة وبرامجها التجسسية، خلال محاولاتها المحمومة السيطرة على مدينة نابلس والقضاء على أعضاء “عرين الأسود”، ولعلها نجحت في تصفية بعضهم أو اعتقالهم، ويسرت استمالة السلطة لآخرين منهم بتعهدها الكاذب التوقف عن ملاحقتهم واعتقالهم أو تصفيتهم وقتلهم، إلا أنها لم تتمكن من تصفية عناصر المجموعة الفتية، وتفكيك بنيتها، أو السيطرة عليها واعتقال أعضائها، وما زالت حتى الساعة تخطط لمواجهتهم، وتعد العدة لاقتحام مناطقهم ومداهمة أماكنهم.
لم تعد سلطات الاحتلال تواجه بضعة عناصر من مجموعة عرين الأسود، ينتمون إلى وحداتٍ عسكريةٍ أو خلايا حزبيةٍ منظمةٍ، أو تتشكل من عناصر النخبة وأعضاء من الفصائل الفلسطينية، وإنما غدت تواجه الشعب كله، الذي شارك أبطال عرين الأسود معاركهم، وخاض معهم بطولاتهم، وحماهم بالصدور والأرواح، وفتح له الدور والبيوت، وأخلى لهم الشوارع والطرقات، وحلق شبابهم في مكانٍ آخر شعر رؤوسهم تمويهاً لهم وتيسيراً لحركتهم، وخذل عنهم وتفانى في الدفاع عنهم، بعد أن رسم أبطال المجموعة بصمودهم وتضحياتهم صورةً رائعةً للمقاومين، ومشاهد بطولية للمقاومة، وسطروا بالدم والسلاح أروع الرسائل، وأطلقوا أصدق الوصايا وأخلص الكلمات.
باتت المقاومة ومواجهة الاحتلال هي حديث الشارع الفلسطيني العام ومادتهم اليومية، تتصدرها أخبار مجموعة عرين الأسود وكتيبة جنين وغيرهما من الخلايا المستجدة الأصغر منها، لكنها لم تعد مجرد ثرثرةً عامةً وتحليلاتٍ ممجوجةً أو أخباراً متناقلة، بقدر ما أصبحت عملياتٍ متنقلةً ومحاولاتٍ مستمرةً، ويشهد العدو على أن عملياتها أصبحت جادةً وقوية، وظاهرة مقلقة ومزعجة، فما من يومٍ إلا ويشهد عمليةً جديدةً، لا تقتصر على الصوت والصدى، والبيان والخبر، بل يقتل فيها جنودٌ ومستوطنون إسرائيليون، ويجرح منهم الكثير، ويخضع بسبب كثرة العمليات العسكرية مستوطنوهم للحبس المنزلي، ويغلقون عليهم أبوابهم، ولا يخرجون من مستوطناتهم، التي يفرض في شوارعها أنظمة حظر التجوال، خوفاً من فدائيين يتسللون، ومقاومين يدخلون.
لا شيء يقلق الاحتلال أكثر من الحاضنة الشعبية والرعاية الوطنية، فالمقاومة البعيدة عن محيطها والغريبة عن وسطها، سرعان ما تنتهي وتذوب، وتذوي جذوتها وتزول، ولهذا فهو يلجأ بخبثٍ بكلامٍ معسولٍ وتصريحات ٍجوفاء إلى الفصل والتمييز بينهم، ويدعي أنه يستهدف العامة ولا يقصد قتل المواطنين، وهو في الحقيقة يستهدفهم ولا يميز بينهم، ويقتل المقاومين في الميدان تماماً كما يقتل المواطنين في الشوارع والطرقات، ويفرض الحصار القاسي والإجراءات المذلة المهينة على الشعب كله، ويمارس العقاب الجماعي بلا رحمةٍ ضد السكان جميعاً، صغارهم وكبارهم، وأطفالهم ونساءهم، ومرضاهم وأصحاءهم.
ربما تتمكن سلطات الاحتلال من تفكيك المجموعة وقتل أو اعتقال أعضائها، لكن خبراءهم والمسؤولين، والمتابعين والدارسين، وقادة الجيش وضباط الأجهزة الأمنية، يدركون تماماً أنهم لم يعودوا يواجهون مجموعةً عابرةً، أو حالةً نضالية مؤقتة، فقد نجحت مجموعة عرين الأسود، ومن قبل كتيبة جنين، في خلق حالةٍ وطنيةٍ فلسطينيةٍ عامةٍ، وشيوع مزاجٍ وطني شعبيٍ مقاوم، فإن خمدت نيران كتيبةٍ هنا، فإن نار سريةٍ هناك ستندلع، وجمر كتيبةٍ أخرى سيتقد، ولن تقف المقاومة عند جنين أو نابلس، ولن تجمد أشكالها على عرين الأسود وكتيبة جنين، فها هي جبع تشكل كتيبتها الجديدة، وتطلق عليها اسم “كتيبة جبع”، وغداً ستتشكل كتائب أخرى جديدة، وستنطلق سرايا مقاومة أخرى، يلتحق بها المقاومون، ويتنافس في العمل فيها الفلسطينيون، فلا يهنأ العدو كثيراً، ولا ينام ملء جفنيه طويلاً.