بيان مشترك حول قانون السرية المصرفية الذي أقرّه مجلس النواب بتاريخ 18 ت1 2022.. السرية المصرفية : جدار محصن رغم خروقات هامة
أقرّ مجلس النواب في جلسته المنعقدة في 18 تشرين الأول 2022 مشروع القانون المتعلق بتعديل أحكام السرية المصرفية بعدما أدخل تعديلات عدة عليه. من ثم، تعين انتظار 6 أيام كاملة قبلما يوقع رئيس المجلس نبيه بري على الصيغة النهائية للاقتراح، مما طرح أسئلة حول إمكانية حصول إضافات عليها أو حذف منها، بخلاف ما أقرته غالبية النواب. وكانت المنظمات الموقعة هنا أصدرت بيانا سابقا اعتراضا على مشروع القانون كما عدلته لجنة المال والموازنة. وإذ هي ترحب بحصول عدد من التعديلات عليه وفق ما طالبت به، فإنها بالمقابل تبقى قلقة حيال تضمينه أحكاما من شأنها الحدّ من فعاليتها أو إلغائها بالكامل.
وعليه، وبعد مراجعة متأنية للصيغة الأخيرة، أمكن تسجيل الآتي:
1. يشكل مشروع القانون في صيغته الأخيرة المقترح الثالث الذي يقره مجلس النواب، بعدما كان ردّ رئيس الجمهورية المقترحين السابقين واللذين تم صياغتهما على نحو يفرغهما كليا أو جزئيا من مضمونهما. وتبدو الصيغة الأخيرة الأكثر تطورا في مجال رفع السرية المصرفية، وإن ما زالت تحتوي رغم ذلك على مجموعة من النصوص والآليات المعقدة والملتبسة والتي من شأنها تعطيل فعاليتها أو الحدّ منها. وفي حين أن تطور الصيغة يعكس زخم الإرادات الوطنية وضغوط صندوق النقد الدولي لإنجاز الإصلاحات اللازمة لتعافي الاقتصاد اللبناني، فإن الاستمرار في وضع نصوص معقدة وملتبسة يعكس بالمقابل ممانعة من قوى برلمانية وازنة ضد هذه الإصلاحات.
2. إن أهم ما ورد في هذا المشروع هو توسيع فئات الأشخاص الذين لا تطبق عليهم أحكام السرية المصرفية. فبعدما كانت لجنة المال اقترحت رفع السرية عن الموظفين العامين والقائمين بمسؤوليات وخدمات عامة ورؤساء ومدراء الجمعيات السياسية والمرشحين لوكالات عامة، أضافت إليهم رؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصارف ومدراءها التنفيذيين ومدققي الحسابات الحاليين والسابقين كما ورؤساء وأعضاء مجالس إدارة الشركات التي تدير أو تملك الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمكتوبة والإلكترونيةفضلا عن هيئات المجتمع المدني (وهو تعريف مبهم). وفيما شمل رفع السرية المصرفية عائلات الموظفين ورؤساء الجمعيات ومدرائها والأسماء المستعارة عنهم وأصحاب الحق الاقتصادي، فإنه لا يشمل بالمقابل عائلات أصحاب المصارف والمؤسسات الإعلامية ولا الأسماء المستعارة عنهم ولا أصحاب الحق الاقتصادي. كما أن رفع السرية عن شبكات الشركات (تملكات متسلسلة ووسائل سيطرة مباشرة وغير مباشرة) اقتصر على شبكات الشركات المتصلة بمدراء الجمعيات السياسية وهيئات المجتمع المدني والمرشحين للحصول على وكالة عامة دون مجمل الفئات الأخرى. مع التذكير بأننا كنا قد إقترحنا في ورقتنا المسلمة إلى بعض النواب والتي إرتكزوا على مضمونها للمطالبة بالتعديلات المدرجة، أن تفرز فقرة خاصة تلحظ كل هذه الصلات والإرتباطات غير المباشرة لكي تطبق بصورة شاملة ومماثلة على جميع الفئات الملحوظة.
وأكثر ما يقلق هو الإصرار على ربط رفع السرية عن الفئات المذكورة بقوانين تبييض الأموال والإثراء غير المشروع ومكافحة الفساد في القطاع العام من دون أي مبرر، وبخاصة أن القوانين المذكورة تجعل هيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان المدخل الوحيد للحصول من المصارف على معلومات مصرفية. وما يزيد من مخاوفنا هو مضمون القانون رقم 32/2008 الذي لم يصار إلى إلغائه لإزالة أو تفادي كل لبس أو إلتباس أو إبهام أو تناقض يعطل تطبيق النص على النحو المراد.
كان من الأفضل شطب هذه العبارات التي لا يوجد أي تفسير لوضعها في هذه المادة. أما وأن ذلك لم يحصل، من المأمول أن يقرأ النص وفق مبادئ حسن النية على نحو يؤدي إلى إسقاط السرية المصرفية تماما عن هذه الفئات من دون حاجة المرور بأي جهاز إداري أو قضائي وبكلمة أخرى تفعيل القانون وليس تعطيله.
3. أما بالنسبة للفئات الأخرى التي ما تزال تستفيد من السرية المصرفية، وضع مشروع القانون عددا من الآليات التي تسمح برفعها. وإذ حذرنا قبل الجلسة من أن هذه الآليات معقدة وملتبسة وأنه يخشى أن تؤدي في غالبها إلى جعل هيئة التحقيق الخاصة مدخلا ضروريا للحصول على المعلومات السرية بفعل الإحالات الحاصلة إلى قوانين تبييض الأموال والإثراء غير المشروع ومكافحة الفساد في القطاع العام، أعلن رئيس مجلس النواب كما رئيس لجنة المال والموازنة وعدد من النواب خلال المناقشات النيابية على التزامهما بإعطاء المراجع القضائية والمراجع الأخرى المذكورة في القانون حق ولوج مباشر للمعلومات من دون المرور بأي مرجع إداري أو قضائي. وقد تعهد رئيس المجلس حرفيا بشطب كل ما يستشف منه خلاف ذلك. وفي حين خلت الصيغة الأخيرة من نص صريح يؤكد على ذلك، نسجل ضرورة في تفسير القانون على هذا النحو على ضوء التصريحات الواردة خلال المناقشات كونها تعكس النية الحقيقية للتشريع.
بالمقابل، نسجل الأمور السلبية الآتية:
– إن النص النهائي حصر صلاحيات القضاء المختص في طلب المعلومات المصرفية في مجموعة كبيرة من الجرائم المالية في الحالات التي يوجد فيها دعوى قائمة. هذا الأمر يؤدي عمليا إلى تجريد النيابات العامة من إمكانية طلب معلومات في إطار الاستقصاء وتكوين الملف قبل اتخاذ قرارها بإقامة دعوى عامة. الأسوأ أنه يمنع على أي مرجع قضائي مختص طلب معلومات بشأن أشخاص يتمتعون بحصانة ما إلا بعد الحصول على إذن مسبق بالملاحقة، طالما أن الدعوى لا تعد متكونة إلا بعد الحصول على إذن مماثل. من هنا، نظن أن الإصرار على تضمين المشروع عبارة “دعوى” بخلاف ما نقلته وسائل إعلامية عدة، إنما رمى إلى الحدّ من فاعلية هذا القانون.
– أضاف مشروع القانون للإدارة الضريبية إمكانية الحصول على معلومات لحاجات التدقيق وضمان الالتزام بالضرائب، وليس فقط لحاجات مكافحة التهرب الضريبي كما كان الوضع من قبل. إلا أنه عاد ليوقف صلاحية هذه الإدارة بصدور مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المالية ويحدد آلية طلب المعلومات من المصارف (المادة 23 جديدة من القانون رقم 44 تاريخ 11/11/2008).
– عدد مشروع القانون الهيئات الناظمة والرقابية للمصارف (مصرف لبنان، لجنة الرقابة على المصارف ومؤسسة ضمان الودائع) ضمن المراجع المخولة طلب معلومات مصرفية، إلا أنه عاد وقيد صلاحيات هذه الهيئات بآليات ثلاث:
تخويلها الحصول على معلومات عامة فقط دون أي معلومات عن حساب معين أو عميل معين،
تمكين المتضرر من تقديم اعتراض على الطلب أمام قاضي الأمور المستعجلة يكون موقفا لنفاذه إلى حين إصدار القاضي قراره مع تمكينه تعليق نفاذ الطلب مرة أخرى أمام محكمة الاستئناف،
الأخطر هو تعليق صلاحية هذه الهيئات على صدور مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المالية ويحدد آلية طلب المعلومات. ومؤدى ذلك هو الحؤول دون نفاذ القانون مباشرة بعد نشره بالنسبة إلى هذه الهيئات وضرورة شروعها في مهام الاستقصاء والتقصي لتحييد المسؤوليات والمحاسبة قبل توزيع الأعباء والخسائر.
4. طالبنا بإلغاء عقوبة الحبس عن الإفشاء بالسرية المصرفية، خشية أن تؤدي العقوبة إلى ردع أو تخويف من هو ملزم بمنح معلومات بناء على طلب أحد المراجع. لم تلغ عقوبة الحبس إنما أضيف جرم جديد هو جرم نشر بيانات تم الحصول عليها بمعرض تطبيق هذا القانون وخلافاً لأحكامه، مما يشكل حماية غير مبررة ويحد من الكشف عن الفساد ويعرض المراجع المعنية بطلب معلومات لمسؤوليات محتملة في حال الكشف عن المعلومات المصرفية التي في حوزتها. ونؤكد هنا أن هذه العبارة أضيفت على صيغة مشروع القانون من دون أن تكون خضعت لأي مناقشة أو مصادقة من قبل المجلس وفي مصادرة واضحة للإرادة العامة.
خلاصة:
رغم بعض الخروقات لجهة توسيع مروحة الفئات التي لم تعد تستفيد من السرية المصرفية، ما زال مشروع القانون يحتوي على أحكام قادرة على الحدّ من فعاليته، وتعطيل الإصلاحات المرجوة منه. هذه الأحكام، ومنها الإضافات التي أدخلت بعد انتهاء جلسة المناقشة والتصويت، تنمّ عن استمرار ممانعة وازنة لدى القوى السياسية الحاكمة حيال أي إصلاح أو خرق في جدار السرية المصرفية.