خطبة الجمعة للشيخ الخطيب

ادى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس والقى خطبة الجمعة التي قال فيها:بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّد المرسلين أبي القاسم محمد  وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين. السلام عليكم أيها الاخوة المؤمنون ورحمة الله وبركاته.

قال تعالى في كتابه العزيز: (وَالْعَصْر * ِإِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْر* ٍإِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر). أقسم الله تعالى بالعصر إن الانسان لفي خسر، وقد قيل في تفسير العصر بأنه عصر نزول القرآن وظهور الإسلام، وقيل بأنّه الوقت المخصوص وهو الطرف الأخير من النهار لما فيه من دلالة على التقدير الإلهي بإدبار النهار وإقبال الليل، وفُسّر بمعانٍ أخرى والجامع فيها هو التعبير عن التحول والتقلّب في الأحوال، وفيه إشارة الى عامل الزمن وتقلباته وتحوّلاته وعدم ثبوته على حال، وابتداء السورة بالقسم به أن الله سبحانه وتعالى يريد إلفات النظر الى سنّته في الحياة التي يغفل عنها الانسان ولا يلتفت إليها ويستغرق فيما يعيشه من أحوال الغنى أو الفقر أو الصحة أو المرض او الامن أو عدم الاستقرار، فيعتبره أنه دائم في حال أن الأمور ليست كذلك وأن الكون مبني على التحولات وأنه ما من أمر يدوم على حال وهي سنّة إلهية تجري في كل شيء بما في ذلك الانسان الذي يتدرج في وجوده من النطفة الى العلقة الى المضغة:(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخالقين).

وهكذا يستمر هذا الوجود في التدرج نحو الاكتمال ليعود القهقرى بعد ذلك الى أن يتلاشى وهكذا في كل أحواله الأخرى من الضعف الى القوة ثم من القوة الى الضعف أو من الفقر الى الغنى ثم يعود مفتقراً مرة أخرى، فليس هناك من استقرار وإنما هي حالة تحوّل دائم في كل شيء حتى على الصعيد الاجتماعي العام التي يشير اليها تعالى بقوله (وتلك الأيام نداولها بين الناس لعلهم يتفكرون).

فالحياة التي هي عبارة عن التفاعل بين قواها من الطاقات والقوى أو التقاتل فيما بينها، هذه الحياة متغيّرة ومتحوّلة وغير مستقرة وغير ثابتة على وتيرة واحدة.

والأمر الثاني الذي تلفت السورة النظر اليه هو عامل الزمن وأثره في الحياة والأَعمار، ففي الوقت الذي يبدأ الوجود فيه بالحياة يبدأ هذا الوجود بالتفتت والضياع، وهذا الأمر ايضاً لا يختصّ بالإنسان وحده وإنما تخضع له كافة الموجودات حية أو غير حية. فالتغيّر والتحوّل وعامل الزمن يعملان فيها جميعاً، غير أن الانسان يتميز عن سائر الموجودات بالإدراك، فهو الذي يُمكنه ملاحظة ذلك ومعرفة الأثر في هذين العاملين، عامل التغير وعدم الثبات وعامل الزمن في حياته والوجود من حوله.

أيها الاخوة والاخوات، إنّ ادراك الانسان لذلك هو الذي يجعله قادراً على مواجهة تبعات هذا الأثر ويمكّنه من التعامل معه بإيجابية ويتدارك العوامل السلبية الطارئة لهذا التحوّل والتغيّر وعدم الثبات في الأحوال ولعامل الزمن الذي يعني أن الحياة صائرة الى الزوال والنهاية، فلا يبطر مع الغنى أو مع الصحة او مع الاستقرار والأمن لأن معنى إدراكه أن لا ثبات في الأحوال وأن التغيّر والتقلّب فيها سنة ثابتة وأن لا دوام للحياة وأن عامل الزمن يأخذ بها نحو الزوال، هو أنّه مهيأ نفسياً لها ويتعامل معها بواقعية فلا يدعو الغنى الى حالة البطر ولا الفقر الى اليأس وكذلك الصحة والأمن والمرض وكل التقلبات التي تعترض حياته من فقدان الأعزة والاحبة، إذ لو لم يكن له هذا الاستعداد النفسي الذي يهيؤه له معرفته وادراكه فلا بدّ أن يُصدم بهذه التغيرات والتحولات التي يؤول أمره اليها، وبذلك تختل لديه الموازين وتتحول حياته الى جحيم، وهذا الأمر كما يجري على الافراد يجري أيضاً على المجتمعات التي تتعرّض لنفس التحوّلات وتخضع لعامل الزمن التي يعمل فيها كما في الافراد.

وهنا مكمن المشكلة التي تتسبب فيما يعانيه الانسان فرداً وجماعةً من اضطرابات وعدم استقرار، حيث يستغرق في الحالة التي يعيشها ويتعاطى مع الحياة من خلال عدم أخذ هذين العاملين في الحسبان، وأنّ الحالة التي يعيشها هي حالة متبدّلة وغير دائمة، لذلك فالله سبحانه وتعالى ومن خلال هذه السورة وغيرها من السور يركّز على أخذ هذه الأمور بعين الاعتبار وأن يتعامل الانسان في الحياة على هذا الأساس، وعلى أساس أن سنّته في الحياة محكومة بالتحوّلات والتقلّبات وألا استقرار فيها لحال على حال. وأنها صائرة أيضاً الى الزوال وأنها مؤقتة وغير دائمة وأن عدم تفعيل هذا الادراك والاستغراق في التعاطي مع الحياة من منطلق الحالة التي يعيشها الانسان تذهب به نحو الخسران.

ويؤكد أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب (ع) على هذه المسألة في نهج البلاغة من خلال استعراضه نماذج من حياة الأمم السابقة وتجاربهم التي نعيش في ساحاتها ونرى آثارها بقوله في احدى مواعظه التي يشير فيها الى هذه السنة الإلهية من التحولات في حياة الأمم والأفراد يحذرهم فيها من الاغترار بالدنيا: (أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُحَذِّرُكُمُ اَلدُّنْيَا فَإِنَّهَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، وَ تَحَبَّبَتْ بِالْعَاجِلَةِ وَ رَاقَتْ بِالْقَلِيلِ وَ تَحَلَّتْ بِالآْمَالِ وَ تَزَيَّنَتْ بِالْغُرُورِ لاَ تَدُومُ حَبْرَتُهَا، وَ لاَ تُؤْمَنُ فَجْعَتُهَا، غَرَّارَةٌ ضَرَّارَةٌ حَائِلَةٌ زَائِلَةٌ نَافِدَةٌ بَائِدَةٌ أَكَّالَةٌ غَوَّالَةٌ لاَ تَعْدُو إِذَا تَنَاهَتْ إِلَى أُمْنِيَّةِ أَهْلِ اَلرَّغْبَةِ فِيهَا وَ اَلرِّضَاءِ بِهَا أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ اَللَّهُ تَعَالَى كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ اَلسَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ اَلْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ اَلرِّياحُ وَ كانَ اَللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مُقْتَدِراً) ثم يخلص الى القول: (مَن أَقَلَّ مِنْهَا اِسْتَكْثَرَ مِمَّا يُؤْمِنُهُ وَمَنِ اِسْتَكْثَرَ مِنْهَا اِسْتَكْثَرَ مِمَّا يُوبِقُهُ وَزَالَ عَمَّا قَلِيلٍ عَنْهُ).

فما كان متغيراً ومتقلباً وزائلاً لا يمكن الركون اليه وإن أوحى بذلك وهو سبب الإغترار به، فالمال والبنون والكثرة والغنى وما أشبه ذلك مما يوحي بالدوام عناصر الاغترار لا يمكن الركون اليها وهي زائلة عما قليل، وهو سلام الله عليه يدعم قوله هذا بتوجيه النظر الى من سبق من أقوام كانوا أكثر قوةً وعدداً وأطول أعماراً يقول في ذلك عليه السلام: ( ألَسْتُمْ فِي مَسَاكِنِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً وَأَبْقَى آثَاراً وَأَبْعَدَ آمَالاً وَأَعَدَّ عَدِيداً وَأَكْثَفَ جُنُوداً تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّدٍ وَآثَرُوهَا أَيَّ إِيْثَارٍ ثُمَّ ظَعَنُوا عَنْهَا بِغَيْرِ زَادٍ مُبَلِّغٍ ولاَ ظَهْرٍ قَاطِعٍ) الى أن يقول: (فَاعْلَمُوا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بِأَنَّكُمْ تَارِكُوهَا وَظَاعِنُونَ عَنْهَا وَاِتَّعِظُوا فِيهَا بِالَّذِينَ قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ فَلاَ يُدْعَوْنَ رُكْبَاناً وَأُنْزِلُوا اَلْأَجْدَاثَ فَلاَ يُدْعَوْنَ ضِيفَاناً وَجُعِلَ لَهُمْ مِنَ اَلصَّفِيحِ أَجْنَانٌ وَمِنَ اَلتُّرَابِ أَكْفَانٌ..).

فهؤلاء الذين لجأوا الى ركن غير وثيق كانت نتيجتهم الخسران والوبال لذا لم يتعظوا ممن كان قبلهم ولو أنهم أدركوا ذلك واتعظوا ممن سبقهم لكانوا من الفائزين. وهو ما عناه الله تعالى بقوله (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتوصوا بالحق وتواصوا بالصبر) الذين استثناهم الله تعالى من الخسران فأدركوا أن الايمان والعمل والصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر هي عوامل النجاة التي تأخذ بأيديهم الى صلاح الحياة وصلاح الآخرة.

فالصلاح والفساد هو نهج فكري وتربوي ينتج صلاحاً في السلوك والأداء والعكس صحيح أيضاً، فإذا كانت عناصر القوة والغنى والصحة والمرض وكل أحوال الدنيا وهذه منها متغيرة وغير ثابتة فلا يمكن الاستناد اليها والركون لها وإنما لعنصر الثبات والاستقرار الذي هو فوقها لمحولّها والمسبب في تغييرها وهو الله سبحانه وتعالى وهو الحق الذي له التحقق والثبات ومحوّل الأحوال ومغيّرها، فإن التحوّل يخضع لسنّة الهية ثابتة أحقّ باللجوء والاستناد اليها.

ولو أن الانسان استخدم هذا الادراك وعمل على أساسه لصلُحت الدنيا ولعمّ الامن والاستقرار، ولكن حينما غيّبه من حياته عاش حياة الضنك والضيق والقلق واللااستقرار، قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ)، وهو ما نعيشه ويعيشه العالم اليوم، إنّ أدراك ذلك لا يحتاج الى علم الغيب وهو أمر متاح لو أن الانسان أعمل فكره لاكتشفه كما يكتشف أسرار الكون عندما أعمل فكره واستفاد من مجالات التقدم العلمي، ولكنّ الله تعالى أراد أن يثير فينا التفكير ويسهّل علينا الطريق إذ أراد أن ينير لنا الفكرة وينشّط لنا الذهن لنستفيق من الغفوة عن الحق حتى لا تسيطر علينا الغرائز وتأخذنا في طريق الخسران، وإن ما أدركناه في حياتنا المعاصرة من زوال الإمبراطوريات الكبرى والتحولات الدولية الهامة تؤكد على أن هذه سنة الهية جارية جدير بنا أن نتعظ منها.

إنّ السر في الصراعات الدولية الحاضرة هو الخضوع لمبدأ القوة الغاشمة والمتحوّلة وما ينتجه ذلك من خوف وجبن لدى البعض يدفعه الى اللجوء الى هذه القوى لحماية نفسه ومصالحه، ولكنه في النهاية كما يقال: (كالمستجير من الرمضاء بالنار)، فإنّ هذه القوى الغاشمة لن تعمل إلا في ما يخدم مصالحها وأهدافها، ولذلك لا يجوز لأحد في لبنان أن يخضع لهذه المعادلة، فإنّ مصلحة الجميع هي في التعامل معاً لإنقاذ بلدنا الذي وقع ضحية حسابات المصالح الفئوية والطائفية التي أضعفت لبنان وكانت سبباً في إشاعة الفساد السياسي والمالي والانهيار الاقتصادي وإفقار شعبه، وهذه الحسابات الفئوية والطائفية تقف وراء الموقف السلبي من المقاومة التي أثبتت وطنيتها بتحريرها لأرض لبنان ومنعته وقوته التي تشكّل العنصر الأساس الى جانب الجيش اللبناني وشعب لبنان في استنقاذ ثرواته وتُجبر العدو على الخضوع لإرادته، لذلك فلا يجوز تعريض لبنان للمزيد من الخسائر والمبادرة الى تكليف حكومة جديدة والعمل الى انجاز الاستحقاق الرئاسي في أقرب وقت.

وفي خضم ما يعانيه القطاع التربوي في لبنان من ازمات متفاقمة تهدد انطلاقة العام الدراسي الجديد ، فاننا نطالب الدولة اللبنانية بدعم المدارس والثانويات الرسمية والخاصة والجامعة اللبنانية، هذه الجامعة التي هي احدى معالم السيادة الوطنية وما تتعرض له من قرصنة لحقها فيما جمع باسمها من فحوصات ال بي سي ار فضيحة لا يمكن السكوت عنها فيما المطلوب من الحكومة دعم الجامعة الوطنية وتوفير العيش الكريم للاساتذة والمعلمين ودفع مستحقاتهم حتى يستطيعوا القيام برسالتهم التربوية، ونرفض بشكل قاطع دولرة الاقساط المدرسية التي تزيد من معاناة ذوي الطلاب وتدفع باتجاه التسرب المدرسي.

ننوه بالموقف الشجاع والحر لبطلين من لبنان انسحبا من بطولة عالمية رفضا لمواجهة إسرائيليين الذي يعبر عن  التزام وطني وحس إنساني يرفض التطبيع مع كيان العدو الصهيوني ويؤكد من جديد ان هذا الكيان المسخ بؤرة شيطانية غريبة عن نسيجنا العربي والاسلامي، وندعو كل الاحرار والشعوب العربية والاسلامية الى الوقوف بوجه التطبيع من منطلق انه عمل محرم على المستوى الوطني والقومي والديني، فالكيان الغاصب لارضنا عدو للانسانية ويمثل الشر المطلق وينبغي التعاطي معه من هذا المنطلق كما قال الامام السيد موسى الصدر: اسرائيل شر مطلق والتعامل معها حرام.

ان الحكومة الليبية مسؤولة عن الكشف عن مصير الامام موسى الصدر واخويه الشيخ محمد يعقوب والإعلامي عباس بدر الدين ، ونحن اذ ندين استمرارها في سياسة المجرم القذافي في التستر على هذا الموضوع وعدم التعاون ندعوها الى الإقلاع عن هذه السياسة ونحملها مسؤولية ذلك وسيكون لنا قريبا كلام اخر في هذا السياق ان شاء الله تعالى.