كلمة الشيخ الخطيب خلال مجلس عاشوراء في السكسكية

كلمة الشيخ الخطيب خلال مجلس عاشوراء في السكسكية

القى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب كلمة خلال المجلس العاشورائي المركزي الذي تقيمه حركة امل في بلدة السكسكية بحضور حشد من الشخصيات السياسية والنيابية والاجتماعية وعلماء دين ومواطنين، جاء فيها:  السلام على الحسين وعلى عليّ بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أبي الفضل العباس وعلى الحوراء زينب، السلام على أنصار الحسين، بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله لقد عظمت الرزية وجلّت المصيبة بك علينا وعلى جميع أهل السماوات والأرض.

السلام عليكم أيها المؤمنون الموالون وأعظم الله أجورنا وأجوركم بمصاب أبي عبد الله (ع)، مصيبة والله ما أعظمها وأعظم رزيتها في الإسلام، وكيف لا نُحيي هذه الذكرى ونجدّد معها الحزن والعزاء والمواساة لرسول الله وآله الأطهار ولوليّ الأمر صاحب العصر والزمان (عج)، وهم آل الله كما ورد للتعبير عن عظيم منزلتهم وعلوّ شأنهم عند الله سبحانه وتعالى، فهم المقرّبون منه بل الأقرب إليه وحاملو رسالته والمنافحون عنها والمفسّرون لها والموكلون بها، فقضيتهم قضيته وهي رسالته ولم يكن لهم قضية سواها.

باعوا أنفسهم لله تعالى وكانوا أمناءه عليها مدى الدهر وأبد الآبدين، أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، فمصيبتهم هي مصيبة الرسالة، والتعرّض إليهم إنما كان تعرّضاً للرسالة والعداء لهم عداء لها، فليست القضية قضية عادية أو مسألة شخصية حتى تنتهي أن أحداً افتقد عزيزاً تعرّض لاعتداء ظالم في قضية شخصية اختصما على شأن دنيوي على امتلاك عقار أو ذهب جرّاء خصومة سياسية او حزبية أو سلطة دنيوية، وما أكثر ما تقع الخصومات على أمور من هذا القبيل ثم تنتهي بمصالحة عائلية أو تسوية سياسية كما يحدث لدينا في لبنان في قرانا أو دساكرنا أو مدننا أو كما حدث في كثير من الحالات بين اللبنانيين نتيجة خصومة سياسية أو مصالح طائفية سبّبت حرباً أهلية ذهب ضحيتها الكثير من الناس قتلى أو جرحى أو معوّقين، ثمّ انتهت الى تسوية سياسية بين الأطراف المتقاتلة وعادت الأمور الى مجاريها بعد مدة من الزمن، فلم تأخذ هذه المصائب طابعاً عاماً وإنما كان أثرها محصوراً ومختصّاً بالضحايا وبأهلهم مهما كان شأنية الضحية، قائداً أو عنصراً وشخصاً عادياً.

في قضية الإمام الحسين (ع) بالخصوص وأهل البيت على نحو العموم، ليست القضية ذات طابع سياسي ولا طائفي ولا شخصي حتى تنتهي بانتهاء الحدث ومرور الزمن وسيطرة الظالم وخضوع المظلوم ثمّ تعود الحياة الى مجراها الطبيعي كما يقال، لأنّ الأشخاص مهما بلغت مكانتهم ومهما كانت قضيتهم محقّة ومهما كانت الظلامة التي تعرّضوا إليها، ومهما كانت تضحياتهم كبيرة لا يعدون أنهم يقاتلون عن قضية ويضحّون من أجلها، فهم ليسوا القضية صغيرة أو كبيرة، قد يكبرون بها اذا كانت قضية كبيرة ومحقة، وقد يصغرون بها اذا كانت القضية صغيرة أو حقيرة، فهم يأخذون حجمهم من حجمها كما أنهم مهما بلغوا ليسوا الحق ولا يُعرف الحق بهم، وإنما يُعرضون على الحقّ، كما هو الميزان في معرفته عند أمير المؤمنين (ع): “لا يُعرف الحقّ بالرجال إنما يُعرف الرجال بالحقّ”، أما مع أهل البيت (ع) فليست المسألة كذلك، وإنما تختلف اختلافاً كلياً لأنهم هم القضية، لأنهم هم الأدلاّء على الحقّ، ولأنهم هم مع الحقّ ولأن الحقّ معهم، كما قال رسول الله (ص) في علي ابن أبي طالب (ع): “عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار”، فالحقّ بهم يُعرف، وكما هو عليّ (ع) كذلك أبناؤه الأئمة (ع)، وهو ما نفهمه من قول رسول الله (ص) في الحسين (ع): “حسينٌ مني وأنا من حسين أحبّ الله من أحبّ حسيناً” أو قوله في الحسن والحسين عليهما السلام: “إمامان قاما أو قعدا” أو  قوله (ص): “مثلُ أهلُ بيني فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى” وقوله (ص): “إني تاركٌ فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا، أحدهما اكبر من الآخر كتاب الله وعترتي اهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض”، وأنهم العروة الوثقى كما وصفهم رسول الله (ص): “من أحبّ أن يتمسّك بالعروة الوثقى فليتمسّك بحبّ عليّ وأهل بيتي”.

كل ذلك لا يدع شكّاً في أنهم عليهم السلام هم القضية، ولا يُحتاج في معرفة أنهم مع الحقّ أن يُعرضوا على الحقّ كما باقي الناس، وأن قول عليّ (ع): “اعرف الحقّ تعرف أهله”، إنّ معرفة الحقّ هي معرفتهم وبهم يُعرف أهل الحقّ، أي اعرف أهل البيت تعرف الحقّ، وإنّ عدم معرفتهم يساوي الجهل بالحقّ.

وكذلك ما ورد في زيارة وارث: (السَّلامُ عـَلَيـْكَ يا وارِثَ آدَمَ صـَفـُوةِ اللهِ، السَّلامُ عـَلَيْكَ يا وارِثَ نـوُحٍ نَبــِيِ اللهِ، السَّلامُ عـَلَيـْكَ يـا وارِثَ إبـراهيـمَ خـَليـلِ اللهِ، السَّلامُ عـَلَيـْكَ يا وارِثَ موســى كـَليِم اللهِ، السَّلامُ عـَلَيـْكَ يـا وارِثَ عـيـسى روُحِ الله السَّلامُ عـَلَيْكَ يا وارِثَ مـُحـَمـّدٍ حـَبـيبِ اللهِ)، فالحسينُ (ع) وارث الأنبياء أي وارث دورهم ورسالتهم وعلمهم وخطّهم ونهجهم وهذا هو الحقّ.

على أن أمر الله تعالى بمودّتهم ليس لهوى ولا لمجرّد قرابة رسول الله (ص) وتكريماً له فقط، كيف وهذا الأمر موجّه الى جميع المؤمنين الى القيامة، ومقتضى مودّتهم أن نفرح لفرحهم ونحزن لحزنهم صلوات الله عليهم وهو تفسير لأية المودّة، وكيف تكون مودّتهم بمصيبتهم وهي دائمة ومتجدّدة مع الزمان والمكان وليست محصورة في حدث معين، فالعالم كلّه مأمور بالإيمان والإسلام وبمودّة اهل البيت (ع) الى يوم القيامة، تصوّروا أن العالم كلّه مأمور بهذه المودّة التي من أبرز خصالها أن يحزن العالم لحزنهم ويفرح بفرحهم لمدى الزمان، وإلا كيف نفهم هذا الأمر للعالم بمودّتهم.

من هنا فإحياء أمرهم (أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا امرنا) أمر طبيعي ومنطقي وكذلك كانت مجالس العزاء وإظهار الحزن وتبنّي قضيّتهم والتفاعل معهم هو الأمر الطبيعي والعكس هو المستغرب والمستنكف، لأنّ الاعتداء عليهم إعتداء مستمر على الحقّ وعلى أمر الله تعالى، وهو ما نفهمه من رثاء الإمام المهدي (عج) وهو يخاطب الحسين (ع): (فَلَئِنْ أخَّرَتْني الدُّهُورُ، وَعَاقَنِي عَنْ نَصْرِكَ المَقْدُورُ، وَلَمْ أكُنْ لِمَنْ حَارَبَكَ مُحَارِباً، وَلِمَنْ نَصَبَ لَكَ العَدَاوَةَ مُناصِباً، فَلأنْدُبَنَّكَ صَبَاحاً وَمَسَاءً، وَلأبْكِيَنَّ عليكَ بَدَل الدُّمُوعِ دَماً، حَسْرَةً عَلَيكَ، وتَأسُّفاً عَلى مَا دَهَاكَ وَتَلَهُّفاً، حَتَّى أمُوتُ بِلَوعَةِ المُصَابِ، وَغُصَّةِ الاِكْتِئَابِ…).

أيّها الإخوة الحسيّنيون، أيتها الأخوات الزينبيات، بهذا البعد وبهذا العمق نلتزم قضية الحسين (ع)، ونعبّر عن التصاقنا بالحقّ وتبنينا لمفاهيمه وقيمه ندافع عنها حتى الشهادة ولا نتخلّى عنها مهما عَظُمت التضحيات، وبهذا أحيينا هذا التراث وكان سمة لنا مدى التاريخ، وكنا دائماً موضع المواجهة لأنّ هذا النهج يخيف الظالمين والطامعين ولأنه يفضحهم ويعرّيهم ويكشفهم، فإحياء عاشوراء إحياء لمبادئه وأهدافه في إشاعة قيم السماء، وبهذا كان إحياء هذه المناسبات في معرض التشويه ومحاولات المنع، ولولا أنّ لها هذا التأثير في الاجتماع والسياسة فلماذا كل هذا الضجيج والصخب الذي يظهر في كلّ عام مع تجّدد إحياء هذه المناسبة مناسبة عاشوراء وذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع)، ولماذا كان هذا التشدّد في منع إحيائها طوال التاريخ بشتّى الطرق وبأبشع الوسائل، حيث لوحق أتباع اهل البيت (ع) وتعرّضوا للقتل والحصار والتضييق والتكفير والسجن والملاحقة؟ فكان إحياؤها تارة بشكل علني وأخرى بشكل خفيّ؟ هل لأن هناك صراع على السلطة بين حزبين أحدهما يشكّل حزب السلطة والآخر يشكّل حزب المعارضة.

إنّ هذا التفسير ليس إلا تفسيراً خبيثاً أُريد به التضليل على الناس حتى لا تُكشف حقيقة الصراع بين تيارين في الأمة، تيار الانقلاب على الإسلام وإعادة الأمر الى الجاهلية وسلطة زمنية ومصالح، وتيار الإسلام الحقيقي الذي تبنّى خيار الدفاع عن الإسلام ورسالته الإلهية في نشر مفاهيمها وتحكيم موازين العدالة الإلهية والقيم السماوية على الأرض.

فليس حقيقة الصراع صراع سلطة زمنية على الإطلاق، فالإسلام لا يسعى للسيطرة والنفوذ كقوة غاشمة، تبني القوة من اجل استخدامها للإخضاع والسيطرة والقهر، وإنما لنشر المعارف الحقّة التي تعبّر عنها رؤيته تجاه الكون والحياة من خلفية أن الانسان عبد لله وخليفته ينطلق في الحياة من منطلق العبودية لله تعالى ويخضع لإرادته، وهو مكلّف في تحقيق هذه الإرادة وليس مجرد مخلوق محكوم بالغرائز خالٍ من القيم الأخلاقية محكوم بالمصالح النابعة من الانانية وحبّ الذات الذي يجعل من الإنسان حيواناً متطوراً له القدرة على السيطرة على ما عداه.

هذه هي أيها الإخوة خلفية الصراع الدائم منذ أن وُجد الإنسان على هذه الأرض في خطوطه العريضة بين تيارين، تيار يتبنى القيم ويُخضع القوة لمنطق الحقّ، وتيار يتبنى القوة ويسير بمنطق الغريزة والانانية ويُخضع الحقّ لمنطق القوة.

ولم يتفاوت الأمر في ذلك بين عصر وآخر، فهذا هو المنطق الذي يحكم الصراع بين هذين الخطين منذ التاريخ ولا يزال، غاية الأمر أن أدوات الصراع تبدّلت وتغيّرت او تطورت إذا صحّ التعبير.

غير أن منطق القوة المادية لم يكن ليحسم هذا الصراع، ولطالما أثبت منطق الحقّ أنه الأقوى والمنتصر طالما وجد له أنصاراً وتحققت الشروط.

بهذه المعادلة سجّلت ثورة الإمام الحسين (ع) انتصارها وبقي منطقها مستمراً في الحياة يرسم آفاق المستقبل للأجيال، وقَصُرَ منطق القوة الأموي عن أن يسجّل انتصاره ويحسم لصالحه الصراع إذ سرعان ما هوى وسقط وبدأ الحسين (ع) يحقق أهدافه رغم استشهاده وأبنائه وانصاره في معركة غير متكافئة مسجّلاً انتصار الدم على السيف.

ونحن اليوم نشهد معركة الحق والباطل في صراعنا مع العدو الصهيوني ومن يدعمه من دول وقوى استعمارية زرعت هذا المسخ الشيطاني في منطقتنا العربية والإسلامية ليكون بؤرة عدوان وتأمر على شعوبنا ينسج المؤامرات ويبث الفتن ويثير الاضطرابات والفوضى في بلادنا، ولقد تنبه قادتنا لهذه المؤامرات الخبيثة وحذروا منها داعين للتصدي لها واحباطها، فالإمام السيد موسى الصدر أسس المقاومة في لبنان  بالتوازي مع العمل على إقامة المجتمع المقاوم، والامام الخميني دعا الى اقتلاع الكيان الصهيوني من الجذور.

وفي الوقت الذي حققت المقاومة في لبنان اعظم الانتصارات على العدوان الصهيوني ودحرته مهزوما من بلادنا تسعى القوى المؤسسة لهذا الكيان الى إدخاله في نسيجنا الوطني والعربي من خلال الدفع باتجاه التطبيع معه، بيد ان محاولاتهم باءت وستبوء بالفشل طالما ان نهضة الحسين (ع) ملهمة المقاومين تشحذ همتهم بالصبر على الأذى وتقوي عزيمتهم على مقارعة العدوان حتى بتنا نشهد اليوم معادلة جديدة في الصراع مع العدو جعلت لبنان في موقع القوة الذي يفرض شروطه على الاحتلال المربك في ازماته واخفاقاته المتكررة، ونفط لبنان سيكون من نصيب لبنان وشعبه، والحصار المفروض على الشعب اللبناني الى زوال، والمستقبل الاتي سيحمل بشائر النصر على الكيان الغاصب.

وفي أيام عاشوراء، فاننا نجدد العهد مع الله تعالى ومع وارث الأنبياء الامام الحسين ان نبقى على نهجه في محاربة الظلم والفساد والاحتلال والتزام نهج الإصلاح والعمل لما فيه خير الانسان والاوطان، ولن نتخلى عن حقوق اللبنانيين في العيش بكرامة في دولة عادلة يحكمها القانون والمساواة ولن نتراجع عن حقوقنا بتحرير ارضنا ومياهنا من رجس الاحتلال، وسنبقى مع المظلومين ولاسيما أهالي شهداء المرفأ الذين نجدد تعازينا لهم وتضامننا معهم ومطالبتنا بكشف الحقيقة كاملة ومعاقبة المتورطين والمتسببين بهذه الكارثة الوطنية وبقيام القضاء بوظيفته الدستورية والقانونية في انهاء هذه المهزلة وإخراج القضية من دائرة الضغوط السياسية والطائفية حتى يتسنى محاكمة المرتكبين الحقيقيين، بدل تضييع الحق في جو من المهاترات . السلام على الحسين وعلى عليّ بن الحسين، عظم الله أجوركم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.