خطبة الجمعة للشيخ الخطيب

خطبة الجمعة للشيخ الخطيب

ادى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس والقى خطبة الجمعة التي قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم المرسلين سيدنا ومولانا أبي القاسم محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان الى قيام يوم الدين، ونستغفر الله ونتوكل عليه ونسأله الهداية والتوفيق لما يحب ويرضى، (ربَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193 ال عمران)

أيها الاخوة المؤمنون والمؤمنات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

متابعة للحديث حول أهمية التربية الذي بدأناه في الاسبوع الماضي، فإن سنة الله تعالى قضت أن يكون الخلق عبر التزاوج بين الذكر والانثى، ناقصين يكملان بعضهما بوجود واحد تكون ثمرته وجوداً ثالثاً، حاضنته الاولى هي رحم الام يمر بمراحل متعددة (ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأنا خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين). فالرحم هو محل تخلّق الانسان وتحوّله من نطفة الى علقة الى مضغة الى عظام ثم تُكسَى العظام باللحم، حتى اذا اكتمل تخلقه وأصبح خلقاً آخر، فهذه مهمة الحاضنة الأولى للأجنة وبهذه المرحلة التي يعبّر عنها القرآن بقوله ( ثم أنشأناه خلقاً آخر) يصبح إنسانا بالفعل من حيث الشكل والتكوين وإنساناً بالقوة من حيث الاستعدادات، وكلما نما بالشكل والتكوين نمت معه استعداداته فيولد جاهلا لايعلم شيئاً، ثم يبدأ فطرياً باستخدام حواسه ونظره ويتعرف على الاشياء ويقارب بينها ويستنتج، ولكنه مع ذلك هو بحاجة الى أن يأخذ من غيره، أولاً بأن يقلده بالأفعال الى أن يصبح قابلاً لما يُعطى من المعلومات التي تبدأ بالاوليات ثم تتدرج شيئاً فشيئاً الى حل القضايا المعقّدة وفهمها والمعادلات التي تمكّنه من التعرف على أسرار الكون وكذلك الحال في أخذ القيم وما ينبغي فعله وما لا ينبغي، وكل ذلك يبدأ من الحاضنة الثانية التي هي الأبوين، ثم المدرسة وبعدها البيئة والمحيط.

وكل هذه المراحل التي يتدرج فيها والعوامل التي يواجهها خلال ذلك وخصوصاً في المرحلة الثانية هي التي تبني شخصيته وتؤثر فيها سلباً او ايجاباً. ولذلك كان هناك اهتمام كبير من علماء التربية والاجتماع ومن خلال البحوث والدراسات بهذا الموضوع وأُصدرت مجموعة من المناهج التربوية التي كانت دائماً موضع تقييم وتطوير بناءً على النتائج التي أفضت اليها هذه المناهج ومدى تلبيتها للحاجة والاهداف التي رغب في الوصول اليها، واضعو هذه البرامج والمناهج، وهذا لا غبار عليه وهو المطلوب وهو ما تقوم به البلدان المتقدمة والغنية بشكل أساسي التي يصطلح عليها بالبلدان الصناعية ذات الاقتصادات المتطورة، وتفتقده البلدان المتخلفة والبلدان النامية أو العالم الثالث التابعة لتلك والتي تأخذ من الغرب هذه المناهج كما هي ومن دون وضع سياسة تربوية مبنية على رؤية تتناسب مع القيم التي تتبناها مجتمعاتها وأهداف محددة تبغى من خلال هذه البرامج تحقيقها، و هناك برامج وضعتها أيادي وطنية إن لم تكن تؤخذ من البرامج الأجنبية كما هي لتطبّق في المدارس مضى عليها ردحاً من الزمن تنفذ سياسات خارجية لإنتاج أجيال هجينة يُبقي الغرب الاستعماري لديها النموذج الافضل والأرقى الذي عليها أن تكون تابعة له وتنظر الى نفسها أنها متخلّفة وليس لديها القدرة في وضع برامج تنتمي لفكرها وقيمها، لأنها تجهل قيمة ما لديها من تراث يمكن ان تستند اليه، ولُقّنت ان ما يراه الاخرون هو ما يمكن أن يرتقي بها الى مصاف الأمم (المتقدمة) وأنها صاحبة الحضارة، والحقيقة أن مجتمعات هذه البلدان (النامية) والتابعة خلطت بين التقدم الصناعي للعالم الغربي والتقدم في البحوث التربوية والنفسية والاجتماعية المنهجي والعلمي وبين التقدم بمعناه الحضاري والقيمي، وتصورت أن سبب التخلف في المجال الصناعي نابع كما صُوّر زوراً لها عائد الى التخلّف فيما لديها من قيم دينية وأخلاقية وتراث انساني، والحقيقة أن ما وصل اليه الغرب من تفكك اجتماعي وتحلل أخلاقي وشيخوخة المجتمعات الغربية عائد الى مجموعة نظام القيم الذي أرساه الغرب وتنكّره للقيم الدينية والاخلاقية التي تشكل الانانية الفردية والقيم الدنيوية وإطلاق العنان للغرائز، والحرية التامة لأبنائها أن يتصرفوا كما يشتهون بل وصل الامر الى أن يتخلى الوالدان عن أي مسؤولية اتجاه ابنائهم حين يبلغون سناً معيناً سبّب تفكك الاسرة والتطرف والميل نحو العنف المجتمعي.

كما أدّى إعطاء الحق بالحماية القانونية لكل ظاهرة من الظواهر الشاذة في المجتمع والاقتصاد على أقل عدد، واحد او اثنان من الانجاب لكل أسرة مما جعل المجتمعات ( المتقدمة) تقبل على كارثة اصبحت منظورة اضطرت معها هذه الدول ان تفتح المجال للهجرة من بلدان العالم الثالث اليها لتعويض النقص الحاصل، بل وصل بها الامر الى افتعال حروب في هذه البلدان من اجل الحصول على الكفاءات التي يتمتع بها بعض افراد هذه المجتمعات التي تخسر مرتين، مرة فيما تنفقه من مبالغ طائلة على تعليم هذه النخبة من اصحاب الكفاءات، ومرة حين تهجر أوطانها لتذهب وتخدم المجتمعات الصناعية دون أي تكلفة، و القول ان هذا ناتج عن قيمة أخلاقية تتمتع بها الدول الصناعية ناتج عن جاهل او تجاهل هذه الحقيقة، ولست هنا بصدد ان أعدّد الكوارث التي اصابت هذه البلدان ومنها لبنان وانما لإلفات النظر ان الاهم من التقدم الصناعي هو التخلّف في نظام القيم الغربي المُبتلى بهذه الازمات التي ستقضي عليه يوماً ما الا ان يتنبّه الى خطورة هذا الواقع ويعدّل في هذا النظام(نظام القيم)، ويعود ليستكمل بنيته بالعدول عن هذه القيم، والعودة الى نظام القيم الدينية والأخلاقية ان سمح له المجال بذلك، وقد خرجت على هذا الصعيد دعوات أطلقها دارسون وباحثون غربيون تنبّه الى هذا الخطر والعودة الى نظام قيم جديدة تعيد الى هذه المجتمعات توازنها المفقود.

وإذا كان للغرب ظروفه الخاصة تبرر له هذا السلوك الخاطئ، فان ما حلّ بمجتمعاتنا من تخلّف حيث انها لا هي حصلت على النتائج التي وضعت الغرب في مصاف الدول المتقدمة صناعياً ، ويُعمل على ضرب ما تبقى لديها من نظام قيم حضارية، فإنه ليس لديها ما يبرر لها اتباع نفس النهج وتطبيق نفس المبادئ.

وإذا كان الغرب عن طريق التبشير والارساليات والجامعات والمناهج حاول ان يصوّر لها ان سبب تخلّفها هو نظام القيم التي يحكمها، فإنه ضربها في الصميم وأعماها عن رؤية الحقيقة اذ على العكس من ذلك، فإن هذا النظام كان كفيلاً بأن يخرجها من حالة التخلّف الى ان تكون النموذج الذي يضع طريق النجاة للأمم من حالة الانحدار الاخلاقي التي تشكل الحروب التي يشنها ويفتعلها الغرب للسيطرة على الشعوب ونهب خيراتها وثرواتها احدى أبرز نتائجها.

ومن هنا نكرر دعوة الباحثين في الشؤون التربوية والإنسانية مرة جديدة الى فتح أعينهم على هذا الواقع وإعادة قراءته من جديد والعودة الى الحفاظ على نظام القيم الذي يحفظ الاسرة والمجتمع ويمنع من انحلاله الاخلاقي الذي بدأ التركيز على ضربه منذ زمن بعيد، وبدأت آثاره تظهر في التفلّت الاخلاقي والتفكك الأسري والتغيير في المفاهيم، والذي ما زال رغم كل ما تعرّض له ما زال يبدي قوة في المواجهة وعصيّاً على محاولات التطويع التي اعطيت أسماءً على غير حقيقتها تدغدغ آذان بعض من اختلطت عليهم الأمور بين الفساد في الممارسة السياسية والإدارية وبين القيم الاجتماعية والدينية، فتلبس هذه لبوس تلك، ومنها إسم (التغييريين) الذي خصوصاً ما يمس منظومة القيم ويُلبسون على الناس الأمور ويدعون الى تغيير قيمنا الدينية والاجتماعية عبر الدعوة الى تشريع هذه الظواهر ونشر الأفلام الإباحية والدعوة الى تجمّعات ترفع شعارها وتُفسد أبناءنا وأُسرنا.

أيها الاخوة والاخوات، إنها دعوة للإفساد والتخريب والتدمير والمطلوب هو الدعوة الى إعادة البناء. إن هؤلاء ليسوا أقل سوءاً من أولئك الذين أفسدوا في السياسة أو الإدارة ونهبوا المال العام، بل هم من نفس الطينة لأنهم يريدون الاجهاز على كل ما تبقّى بل أغلى من كل ما أُهدر وسُرق. والبناء يبدأ ببناء الإنسان بالتربية الأخلاقية وتكريس القيم التي شرّعها الله تعالى واتفقت عليها الديانات، إنّ الذين أفسدوا لا ينتمون الى هذه القيم ولا يمارسونها وإن نُسبوا إليها، وإنما الأمم الاخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا. ولذلك لا بد من البدء بالمدرسة والمناهج الدراسية والتربوية والمراكز التربوية التي تعد الكوادر التي تقوم بعملية التدريس والتربية لأنها بعد الوالدين وخصوصاً المراحل التعليمية الأولى من أخطر العوامل على الاطلاق التي تؤثر في صناعة الشخصية الايجابية التي تبني وطناً وتحافظ عليه وتصنع التقدم والرقي التي تُبنى على العطاء لا الأخذ، وعلى ان الوطن قيمة وليس بسلعة تباع وتشترى، وان الوطنية والتضحية والشهادة ليست كالخيانة، فقد سمعنا في هذا الزمن العجب من سياسيين وأشباههم ممن يسمون التضحية والشهادة والدفاع عن الوطن بأنه خيانة، والعمالة للعدو والتفريط بالسيادة وطنية وسيادة. فأيّ سقوط أخلاقي انحدر هؤلاء إليه، وأي خطر على الوطن المجتمع والناشئة يمثّل هؤلاء. من هنا البدء بالإعمار أعني بتصحيح المفاهيم، ولذلك يمثّل اليوم الدفاع عن أرضنا وسيادتنا وثرواتنا التي ينتهكها العدو كل يوم والتصدي له قمة الوفاء للبنان، خصوصاً تخليص ثروتنا البحرية وتمكين لبنان من التنقيب عن الغاز والبترول في مياهنا الاقتصادية الذي يمثّل خشبة الخلاص للبنان الذي يغرق يوماً بعد يوم بمشاكله الاقتصادية والاجتماعية حتى يُدفع بنا الى الفوضى التي إن انحدرنا اليها لا سمح الله نكون قد انتهينا.

ولكن مع كل ذلك، لا بدّ من تأليف حكومة تسدّ الفراغ وتكون قادرة على أخذ قرارات كبيرة توقف الكارثة، فمن دون حكومة قادرة على اخذ قرارات بهذا الحجم ماذا ينفع الغاز والبترول ومن سيستخرجه الى أخر ما يُطرح من أسئلة في هذا السياق، لذلك ندعو الجميع الى التواضع والاستجابة الى نداء الضمير كي لا يتحملوا وزر خيانة لبنان واللبنانيين ولعنة الأجيال.