خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله

خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله

ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بأن نستعيد في هذه الأيّام ما جرى للمسلمين بعد معركة أُحد، حيث تذكر السّيرة أنَّ أبا سفيان، وبعدما غادر أُحد عائداً إلى مكّة منتصراً، ندم على تسرّعه، وقرَّر، وقبل أن يصل إلى مكّة، العودة إلى المدينة للانقضاض على المسلمين فيها، مستفيداً من ضعف معنويّاتهم والجراحات التي ألمّت بهم.

يومها، عرف رسول الله (ص) والمسلمون بقرار أبي سفيان، وخرجوا جميعاً لملاقاته والتصدّي لجيشه ومن معه، وخرج معهم الجرحى متثاقلين على جراحهم، فلمّا علم أبو سفيان بعزيمة المسلمين وتصميمهم على نصرة دينهم، قرَّر العدول عن رأيه والمضيّ عائداً إلى المدينة.

وقد سجَّل القرآن الكريم هذا العنفوان الَّذي كان المسلمون يعيشونه لثقتهم بالله وتوكّلهم عليه، فقال: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}. لم تشِر هذه الآيات إلى حادثة منفردة حصلت في التّاريخ، بل لحادثة هي حاضرة في مفاصل عديدة في التّاريخ، وستكون حاضرة دوماً في مواجهة كلّ التحدّيات، التي هي ليست بعيدة منا

والبداية من لبنان حيث استطاع اللبنانيون إنجاز الاستحقاق الانتخابي من دون أي حوادث تذكر رغم الشحن الطائفي والمذهبي والسياسي، الذي شاب الخطاب الانتخابي وتبادل الاتهامات والتي وصلت إلى حد التخوين، والذي كنا حذرنا منه ومن تداعياته…

وهنا نقدر عالياً للبنانيين قدرتهم على تجاوز كل هذا التوتر والتعبير بأصواتهم عن خياراتهم وعن ما يتطلعون إليه، والذي ظهر جلياً فيما أفرزته صناديق الاقتراع.

أما وقد أنجز هذا الاستحقاق وبالصورة التي حصلت، فإننا ندعو اللبنانيين إلى إزالة أية تداعيات قد يكون أنتجها الخطاب الانتخابي الذي اعتمد مع الأسف إثارة المخاوف والهواجس بين اللبنانيين إلى الحد الذي أظهر أن لا قواسم مشتركة في ما بينهم وأن لا أمل بعودتهم إلى التلاقي، حتى لا تترك آثارها على الوحدة الداخلية التي هم أحوج ما يكونون إليها في هذه المرحلة وفي كل المراحل…

وهنا لا بد من أن ننوه بكل الأصوات والمواقف التي سمعناها بعد الانتخابات والتي طالبت بالكف عن الخطاب التحريضي والدعوة إلى إيقاف الممارسات الاستفزازية التي ظهرت خلال الاحتفاء بنصر هذا الفريق وذاك..

ونحن هنا نؤكد ما كنا قلناه سابقاً، ولأكثر من مرة، على ضرورة إبعاد العنوان الديني أو المذهبي عن أن يكون أداة للتجييش أو للاستفزاز أو للانقسام وإثارة الأحقاد، فالأديان السماوية لم تأت لنسف الجسور بين الناس، بل لمدها فيما بينهم وتعميق اللقاء على القواسم المشتركة، وأن تحكم العلاقة فيما بينهم الأخوة الإيمانية والمشاعر الإنسانية….

والتي أشار إليها أمير المؤمنين(ع) في عهد لواليه مالك الأشتر الذي ولاه مصر حين قال له: “أعلم أن الناس صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ.. فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وصَفْحِهِ” ..

ونحن في الوقت نفسه، ندعو أعضاء المجلس النيابي الجديد إلى أن يكونوا على مستوى آمال من منحوهم أصواتهم وأودعوهم ثقتهم، بأن يكونوا تعبيراً صادقاً عن معاناتهم وآمالهم وطموحاتهم، إن على صعيد الاستحقاقات التي تداهمهم أو على صعيد التشريعات المنتظرة منهم أو في دورهم الرقابي، وأن يفوا بكل الوعود التي وعدوا بها، أن لا يروها وعوداً انتخابية تنتهي بانتهاء الانتخابات، كما اعتدنا، بل عليهم أن يروها واجباً شرعياً وأخلاقياً لأن توكيلهم كان مشروطاً بها… وهو لن يبقى مستمراً إن لم يفوا بوعودهم ولم يقوموا بالدور المطلوب منهم.

إن أمام المجلس النيابي الكثير مما عليه القيام به في هذه المرحلة الصعبة التي يمر بها البلد وإنسانه، فليس الوقت وقت تسجيل نقاط أو وقت مناكفات وصراعات أو إثارة عناوين خلافية أو طرح قضايا ليس الآن وقت طرحها، حتى لا يجري نقل الصراع الذي شهدناه طوال المرحلة السابقة إلى داخل المجلس النيابي الجديد…

إن المرحلة هي مرحلة إنقاذ بلد يتداعى، فمن حمل عنوان التغيير أو وعد به عليه أن يثبت ذلك وهو لن يتحقق إلا بمد يد التعاون إلى الآخرين حيث لا مجال لإخراج البلد من أزماته أو إصلاح ما فسد فيه بيد واحدة بل بتكاتف الأيدي وتعاونها..

إننا نريد للتنوع الذي نشهده في المجلس النيابي الجديد أن يساهم في خلق الحيوية المطلوبة للإنجاز والتنافس عليه، وأن لا يقع في فخ الاصطفافات الحادة التي لم تفلح في تحقيق أهدافها سابقاً وهي لن تفلح الآن…

إن اللبنانيين لن يقبلوا مجدداً بالعذر الذي طالما استمعنا إليه من القوى السياسية الممثلة في المجلس النيابي والحكومة، لتبرير تقصيرهم أو عدم القيام بما عليهم من مسؤوليات بأن الآخرين لم يدعونا نقوم بأداء دورنا، فمن الآن من لا يستطيع العمل والإنجاز عليه أن يعيد الوكالة التي أعطيت للشعب الذي منحه إياها حتى لا يلدغ البلد وإنسانه من جحورهم مرة أخرى.

في هذا الوقت، وإلى أن يبدأ المجلس النيابي بالعمل، نأمل من الحكومة التي ستتولى تصريف الأعمال في المرحلة القادمة عدم الانكفاء والقيام بالدور المطلوب منها في معالجة الأزمات الساخنة التي بدأت تلوح مجدداً والذي نراه الآن على صعيد المحروقات أو الدواء أو الكهرباء أو الخبز والكثير الكثير من ذلك، وأن تُبذل كل الجهود على هذا الصعيد وندعو هنا أن تُسهل لها الطرق القانونية لتتابع هذا الدور إلى حين تأليف حكومة جديدة والتي نخشى أن يطول تأليفها.

وإلى فلسطين المحتلة، التي يواصل العدو فيها ممارساته العدوانية بحق الشعب الفلسطيني لإخضاعه ونزع هويته وطمس معالمها وإجهاض انتفاضته التي نشهدها اليوم في جنين والقدس..

ونحن في الوقت نفسه ندعو إلى التنبه إلى ما يخطط له العدو على مستوى المنطقة كلها وما هو ما ظهر في مناوراته المستمرة والتي يحاكي فيها ضرب أهداف في لبنان أو إيران وغيرهما… والتي وإن كنا نراها تأخذ طابع التهويل أو الترهيب، فإننا نخشى أن تكون مقدمة لعدوان فعلي جديد، ندعو إلى الحذر منه والاستعداد لأكثر السيناريوهات خطورة، ولا يكون ذلك إلا بتعزيز الوحدة الداخلية والابتعاد عن كل أشكال الشرذمة والانقسامات السياسية وغيرها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *